السخرية في القصيدة
أريد وظيفة مناسبة...
أجابوا:إلى أين تريد أن تأخذ البلد؟!ثاني السويديتشكل المفارقة والسخرية مرتكزين أساسيين في القصيدة الحديثة، والمصطلحان متداخلان إلى درجة كبيرة، ويمكن أن نضيف إليهما مصطلحاً ثالثاً هو السوريالية، الذي يلتقي مع المفارقة في نقطة صناعة الصورة.وبعيداً عن المصطلحات، ودهاليزها اللغوية التجريدية، نجد القصيدة الحديثة في الشعر العربي مليئة بالصور الساخرة، ولو أخذنا منطقة الخليج العربي، فإننا نجد أن الشعراء الذين يمثلون هذا المنحى كثر، يمكن أن نذكر منهم الشاعر الإماراتي ثاني السويدي، والشاعر/القاص السعودي سعود السويداء. ولم تُتَح لنا فرصة الاطلاع على جديد هذين الشاعرين، لكن النماذج التي وقعت بين أيدينا من هذين الشاعرين تنم عن حس عميق للسخرية. يقول السويداء في ديوانه «الأشياء تمر»: في رأس الخيمة/ يمكنك أن تصطاد سمكة/ وتسد بها جوع شعب بأكمله/ بإمكانك أن تلمع/ كأساور متماسكة في يدي متزوجة جديدة/ بإمكانك أن تختار أمك/ فالشوارع لدينا مليئة بالأمهات».في هذا النص القصير ترتكز بنية المفارقة على نظرة ساخرة لطريقة سير الأشياء وانتظامها، فالنص يبدأ بعبارة «رأس الخيمة» وهي اصطلاحاً علم لمكان، ولنا أن نأخذ في الاعتبار أن مفردة رأس هي إشارة دالة يمكن أن تُطلق على مجموعة من الأشياء: (رأس الإنسان... رأس الجبل... رأس الماعز... إلخ)، بينما كلمة الخيمة هي دالة تحيلنا إلى الصحراء.أما في الوحدة الشعرية الثانية فيقول «بإمكانك أن تصطاد سمكة»، والسمكة دالة على الحياة البحرية، بينما الخيمة علامة تحيلنا إلى الصحراء، وليست هذه المفارقة اللفظية محور الاهتمام، إنما النص في بنيته العميقة يتأسس على مفارقة كبرى ترتكز على ثلاثة محاور: المحور الأول هو أنك مشبع مترف (سمكة واحة يمكن أن تشبع شعباً بأكمله)، وهنا يمكن أن نلاحظ بنية المفارقة تتأسس على طرفي نقيض: (سمكة واحدة) دلالة على القلة، و(شعباً بأكمله) دلالة على الكثرة وهي مفارقة مستحيلة في الواقع الفعلي للحياة ؛ إذ أن سمكة لا يمكن أن تشبع شعباً بأكمله.المحور الثاني هو أنك (تلمع) دلالة أخرى على الغنى والترف.والمحور الثالث (وهنا مكمن المفارقة) هو أنك يمكن أن تختار لك أمّاً، على افتراض أنه ليست لك أمٌّ، لكن السؤال كيف جئت إلى الحياة إذا لم تكن لك أمٌّ؟ هذه الأمور توازي (من حيث الكثرة) سمك البحر الذي يمكن أن تصطاد منه واحدة... أي واحدة.من الناحية التاريخية يبدو تراثنا النقدي مفعماً بالنصوص التي تحمل روح السخرية، وهو الأمر الذي يمتد معنا إلى يومنا هذا، ويربط الباحثون بين فن السخرية الذي تزخر به نصوصنا وواقع الألم والمعاناة الذي تعيشه شعوبنا العربية، فالقمع السياسي يولد أدباً ساخراً، وقد سُئل الشاعر محمد الماغوط ذات مرة عن ماهية السخرية فقال «هي ذروة الألم»، ولعل أشهر شاعر عُرف بالسخرية في تراثنا العربي هو بشار بن برد، الذي كان يعاني مرارة العمى، وقسوة المجتمع في الوقت ذاته، لذلك فإن نصوصه الساخرة غالباً ما تتعرض لمسألة العمى، والمفارقات الناجمة عن حياته اليومية، واختلاطه مع الناس من حوله.