عذراً، غابت مقالة الأحد الماضي والسبب ضيق الوقت. وليس أسوأ من الكتابة بعين والعين الأخرى على الساعة. والناس لا تعذر، ولن تقبل منك إلا وجبة شهية مشبعة. وقبل فترة، أثناء لعب ابني سعود - الذي لم يكمل عامه الثالث، لكنه يحاول، وقد ينجح، وقد لا ينجح - سقط من أعلى الدرج على الأرض مباشرة، يبدو أنه كان مستعجلاً فاختصر المسافة، وصدم الأرض بجبهته الشاسعة المترامية الأطراف، فأحدث دوياً، وتورّمت الأجزاء الشمالية الغربية من جبهته، وازداد طول رأسه، وزيادة الخير خيرين، ويبدو أنها «حوبة» أطفال الجيران الذين كان يتعامل معهم بنظام «الخصخصة»، فكلما راق له شيء في يد أحدهم خصخصهُ لنفسه... وكنا في ساعة العصرونية، كما يقول المغاربة، وهو وقت الكتابة، عندما تعالت الصرخات، فجريت وجاريت، وفتحت ساقيّ الطويلتين على مصراعيهما، وقطعت مسافة الدرج هبوطاً في أجزاء من اللمحة، وإذا به فاغراً فاه، يبحث عن نَفَسٍ مفقود، فحملته على كتفي، واتجهت به في «زفة» ونواح إلى المستشفى، وبعد أشعة رأس وعلاج لثة وإعادة إعمار الحنك، ووو، ناظرت ساعتي فإذا نحن ما بين المغرب والعشاء، فتركت سعود مع والدته وعدت وكتبت المقالة. فالكاتب مثل مضيفة الطائرة، عليه أن يخرج إلى القراء بكامل زينته، فجبهة ابنه تعنيه هو وحده، لا علاقة للمسافرين بها.

Ad

ويوم الأحد، أقصد يوم السبت، وقت كتابة المقالة، وصلت متأخراً ألهث، وجلست لأكتب وعيني على الساعة، فخشيت أن أقدم وجبة لم تأخذ النار حقها منها، فيقرأها الناس «نيّة» غير ناضجة، رائحتها زكية، وطعمها مميت، فتتلبّك أمعاؤهم وترتبك، ويتزاحمون على عيادة الطوارئ، فهاتفت الجريدة واعتذرت.

وحكاية الطبخ ذكرتني بما حدث في مخيّمنا، وكنا مجموعة من عباد الله الصالحين، وبعد أن نصبنا خيامنا، وزعنا أوراق الكوتشينة، على أن يتولى الخاسر مسؤولية الطبخ، إذ تمنع القوانين اصطحاب الخدم، وكالعادة كنت أنا الخاسر، فتعالت ضحكاتهم فرحين، فحذرتهم من عاقبة الأمر، استناداً إلى تجاربهم معي، لكنهم لم يأبهوا، فطلبت أن «يوقّع» كلّ منهم على ورقة تخلي مسؤوليتي فلا تطالبني أمهاتهم بالدية، فكركروا شماتة، فتوكلت على الله وطبخت. وكان من بين المجموعة صديق تسلل خلسة من فصيلة الغوريلا إلى فصيلة الإنسان، في غفلة من العم داروين، وأشهد أنه لم يترعرع على يد فليبينية، وأشهد أن أصابع يديه لو كمش بها رقبة حاخام يهودي لنطق الحاخام بالشهادتين فوراً بأعلى صوته، ولصلّى التراويح الساعة أربع العصر. وكان صاحبنا ضحوكاً كركاراً، وإذا ضحك ضرب الجالس إلى جواره على فخذه، فتتهشم وتنخلع صابونة ركبته.

وبين كل لحظة وضحاها يدخل الغوريلا خيمة الطبخ ليتفقد الأحوال، ولشدة جوعه راح يتغزل برائحة الطعام تارة، ويتهكم عليّ تارة: «ودلوقتي نحط معلقة من جوز الهند، وطماطمايتين، ونصف كوب من النشادر، وخمطة طحين مغشوش، وحيبلع جوزك بالهناء والشفاء، هاهاها»، وأنا أتمتم: «الوعد قدام يا بو طماطمايتين». وحانت ساعة الجد، وانتهت الطبخة، فقدمتها إليهم، وكان لونها أخضر، وكان لون ليلتنا أسود، وتوقفت الضحكات، وخيّم الصمت وساد الحزن، وعبس أبو طماطمايتين واكفهرّ، ثم تحامل على نفسه وراح يحجل كما تحجل الغوريلا إلى الخلاء، يده على بطنه، وظهره محنيّ كما كف طبّال اعتاد ضرب حافة الطار.

وهذا ما خشيت تكراره في مقالة الأحد.

***

تعازينا للأستاذ الكبير أحمد الديين لوفاة والدته، أسكنها الله فسيح جناته، وألهم ذويها الصبر والسلوان.

***

الحرية لسجين الرأي محمد عبد القادر الجاسم.