بعد عشرين عاماً من الغزو استظل بلدنا بسقف وارف من الأمن والأمان، ولمت أرض الكويت أبناءها جميعاً، لكن دفنت الكثير من اللوحات الجميلة مع رفات شهدائنا الذين أخذوا معهم تحت التراب ملاحم الأخوة.

Ad

حساب الأيام والسنين في تاريخ الأمم والشعوب له منطقه الخاص، ومعادلاته تقاس بموازين ومعايير مختلفة، لأن ذكريات الأحداث عادة ما تخزن وتتراكم عليها النتائج والتبعات لترسم صورة متكاملة يسرح معها الخيال لشرحها والدخول إلى عمقها وتذكر كل جزء منها، كيف ومتى سطر على تلك اللوحة.

وبعد مرور عشرين سنة كاملة على أحداث الغزو العراقي واحتلال صدام حسين لدولة الكويت لا بد من وجود صورة كاملة في ذهن كل كويتي لتلك الأيام العصيبة يستذكر كل خط فيها، وكل لون رسم عليها، وكل من شارك في تصويرها بحلوها ومرها، ولحظات الخوف والسعادة خلالها، وحالات الإحباط والتفاؤل عندها.

ولعل هذه الصورة لم تغادر عقول ووجدان الكويتيين، صغيرهم وكبيرهم ورجالهم ونسائهم، كل بحسب ما عاشه من أحداث وذكريات ومواقف، ولكن تبقى صورة إجمالية واحدة رسمت الكويت كبلد وشعب وتاريخ ينظر إليها الجميع بنفس المنظور وبحالة موحدة، بل يترحم على طيفها رغم مرارة الحدث وألم المصيبة وهول الفاجعة.

وإذا كان كابوس الاحتلال الذي دام سبعة أشهر وخلف القتل والتعذيب والدمار والأمل لدى الكويتيين، وزرع في قلوبهم الحب والود والولاء، وألغى فيما بينهم الحواجز النفسية بسبب الاختلاف الطبقي والمذهبي ودرجات السلم الوظيفي، وفعّل غريزة نكران الذات، فجيوب المقاومة المسلحة احتضنت كل فئات المجتمع الكويتي ولمت الحضري والقبلي والسني والشيعي وكبار الضباط وصغار الأفراد، ومجموعات الدفاع المدني شملت الرجال والنساء وأبناء المحافظات المختلفة، ووفود الدبلوماسية الخارجية جمعت الشيوخ والتيارات السياسية والشخصيات الاقتصادية والنواب المعارضين المفصولين من الخدمة آنذاك!

أما الديمقراطية، وإن كانت معطلة ومصادرة إبان الغزو العراقي، إلا أنها ظلت أفضل شفيع سياسي في كسب التعاطف والتأييد الدوليين وحشد جيوش النصرة والتحرير، وكنا نتباهى بها وبدستورنا الذي كان بالفعل حضننا وسورنا المنيع الذي لم يقدر صدام على خرقه، وتشتيت وحدتنا حوله رغم محاولاته بالتهديد والترغيب، فبقيت الهوية الكويتية أرضا وشعباً وكياناً قانونياً وحدة واحدة رغم مصادرة الأرض وتشريد الشعب وإلغاء الكيان القانوني.

وأخيراً عاش الكويتيون أيام المحنة على أمل لم ينكسر أو يتلاشى طوال فترة الاحتلال يوماً بيوم، وأدوا واجباتهم الوظيفية وأداروا بلدهم بما توافرت لهم من إمكانات متواضعة وظروف متاحة.

وبعد عشرين عاماً من هذه الذكرى ونحن نستعرض شريط الأحداث لعهد ما بعد التحرير نجد العجب العجاب، فقد استظل بلدنا بسقف وارف من الأمن والأمان الذي توج بزوال النظام الصدامي ولمت أرض الكويت أبناءها جميعاً، وعاد صنبور النفط لتتدفق معه الأموال الطائلة، ولكن دفنت الكثير من اللوحات الجميلة مع رفات شهدائنا الذين أخذوا معهم تحت التراب ملاحم الأخوة واختلاط دم الحضري والبدوي والشيعي والسني واستبدلت هذي اللوحة بالنفخ في روح الكراهية والتعبئة البغيضة ضد بعضنا بعضا.

وغابت بوصلة الأمل في مستقبل بلدنا وأطفالنا بعدما صرفت المليارات من الدنانير دون أن تخلف أي مشاريع حقيقية يستفيد منها الشعب، وأضحت بيئتنا أكثر تلوثاً وخطراً على صحتنا من تلك الحرائق التي أشعلها جنود صدام حسين، أما ديمقراطيتنا فأصبحت نذير شؤم للشعوب المجاورة لنا، وطلت الرؤوس البائسة لتنادي بقبرها من جديد، وبدأ البعض يروج أن دستورنا وقوانيننا باتت تشكل عوامل تهديد لوحدتنا واستقرارنا الداخلي.

ومثل هذه الصور المؤلمة حقيقة تدعو للخوف والرهبة بأننا قد نكون أمام غزو داخلي نفتك بسببه ببعضنا بعضا بحسن نية أو بعمد وترصد، وأصبحنا مع الأسف الشديد مثلما كنا نتغنى بأيام الغوص والفقر الغنية بمعانيها الإنسانية نتغنى اليوم بأيام الغزو وذكرياتها الجميلة!!

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة