كتبت في مقالة الأسبوع الماضي عن الرواية الصينية العظيمة «رمز الذئب»، التي حصلت على أكبر جائزة ثقافية في الصين، واليوم سأتناول رواية فرنسية هي أيضاً حصدت أكبر جائزة في فرنسا، ألا وهي جائزة Inter عام 2003.

Ad

تساوت الروايتان في حصد أعلى وأهم الجوائز في بلديهما، ولكن اختلفتا كثيراً في تفاصيل العمل، وفي التقنية، والهم الوجودي، اللغة وطريقة الكتابة وانعكاسها بكيفية تفكير الكاتب، وديناميكية العمل كله.

فـ «رمز الذئب» التي لا تقارن بأي عمل روائي آخر، هي كينونة متفردة ومنفردة بذاتها، وحياة حقيقية معاشة ومحكية.

أما «فتاة من شارجر»، التي كتبها «بيير بيجي»، وهذه أول رواية أقرأها له، فهي رواية عصرية جداً تتناول حياة العزلة والوحدة في المجتمعات الغربية، سواء كانت عزلة الإنسان عن المجتمع، أو عزلة نفسية مرضية، أو حتى الأخطر منها، وهي عزلة الإنسان عن جسده، فأبطالها الثلاثة يعانون عزلات مختلفة، «فولار» صاحب المكتبة، الرجل الضخم، المثقف الحافظ عن غيب معظم صفحات الكتب التي قرأها، والتي سيطرت تماماً على مسارات حياته، يعاني كل أشكال العزلة التي سبق ذكرها، وحين ترتطم بسيارته الطفلة «إيفا» التائهة في الشوارع بحثاً عن بيتها، والتي تصاب من بعد صحوتها من الغيبوبة بعزلة نفسية عن كل ما حولها، فتتركها أمها «تريز» في رعاية فولار الرجل الذي صدمها، فالأم أيضاً تعاني عزلة اجتماعية، وشعوراً بالغربة عن ذاتها وعن ابنتها، فلا تتحمل مسؤولية رعاية طفلة مريضة وفي حاجة إلى العناية القصوى.

ثلاثة نماذج تناولتها الرواية بتفاصيل شفافة، وفي لغة عالية مرهفة قادرة على النفاذ إلى قلب الحدث وجوهر العزلة، وبتكبير كل تلك الذرات التي لا تُرى، وتهز النفس البشرية، وتخدش صفاءها، وتجرحها إلى الأبد.

هذا هو لب الرواية وإن تخللتها بعض الحكايات الصغيرة لإضاءة المخفي من هذه الشخصيات الثلاث.

البطلة في هذه الرواية بحق، هي اللغة، لغة استطاعت النفاذ والتغلغل في كل تلك التفاصيل المتناهية الصغر، واصطياد جواهرها في شعرية عميقة، مقطرة ومصفاة على تلك الصور التي اختصرت الكثير، والكثير مما يُقال ومما يثرثر به.

فبينما كانت «رمز الذئب» تُحكى بلغة عادية، وكان هناك إخراج مذهل للمشاهد، ولإدارة المجاميع، وتحريكها بمشهديات سينمائية رائعة، نجد أن اللغة في «فتاة من شارجر» قد حملت العمل كله إلى الواجهة، وأعطته المتانة والقوة، فهي لغة مثل المرآة عكست روح العزلات وصمتها، وتيهها، وفراغها، وعدمها، وخفتها وانجرافها للهوة السحيقة التي لا حس فيها وليس لها صدى أو رنين، ولولا هذه اللغة لأصبحت الرواية عادية وربما تكون بلا ميزة، وبلا نكهة أو طعم.

وهذه بعض من صور تلك اللغة:

* تولد لديه الإحساس بالطفو بالعوم الجميل في شيء مثل العدم، العدم المتناقض، العدم المرئي والمادي، إبداع العدم، العدم الصافي، العدم السهل. بلا حكايات، بدون تعقيدات، مظاهر لا تتطلب أي شيء سوى أن تجتاز.

* جروح شخص وحيد، أسى امرأة وحيدة، القراءة تتمثل في النزول إلى هذا الجرح وأن يتصفحها. وراء الجمل، حتى أجمل الجمل وأفضلها تمكننا من سماع صرخات.

* أوراق الورد... اهتزاز صف الأشجار، موجات الحياة، سيكون لها القدرة الخارقة لإفاقة النائم، لإيقاظ روح كورقة الورد، روح كموجة.