المريد» هو «تابع مطيع» أمين لشيخه بشكل تكاد تنتفي فيه شخصيته تماماً، فلا رأي له فيما يتلقاه، ولا يستطيع أن ينخرط في طريقة أخرى أو يعترض على أمر قائم، «فمن اعترض امترض» كما يقول المتصوفة، ومن تمادى في اعتراضه طرد من الطريقة وفقد «المدد»!

Ad

لمشايخ الطرق الصوفية في نظر أتباعهم من القدرات والصفات ما هو فوق الوصف وأبعد من المعتاد بكثير، فلقد نعت الدراويش والمريدون وحتى العامة مشايخ الطرق الصوفية بكل صفات الهيبة والجلال والعلم والحلم والقدرة على تذليل كل صعب، وتيسير كل عسير، والتحلي بكل ما يقترب بصاحبه من الكمال والمثال، فها هو العيدروسي يصف الرفاعي قائلاً: «ما رؤي الشيخ الكبير وهو يأكل الطعام ولا هو نائم، وما كان أحد يعرف مكان نومه، ولا مزح مع أحد وما مازحه أحد، وما كان يتكلم من غير سبب ولا موجب، وما كان أحد يقدر أن يتكلم معه أو يكلمه من غير سبب لما كان عنده وعليه من الجلالة والمهابة، وإذا استدعى أحدا يمشي إليه لأمر فكان يتقيد ذلك الواحد بالشيخ من ساعته ويعرض على السير معه بالأدب فلا ينطق بقليل الكلام ولا بكثيره إلا بإذن».

ويقول مريدو الطريقة الحامدية الشاذلية مثلا في شيخهم سلامة الراضي: «إن جمال الشيخ الذي كان يفرح المريد في بادئ الأمر ينقلب إلى جلال وهيبة تقبضه وتبسطه وتطويه وتنشره فيخافه ويحذره، ولكنه لا يجد عنه مصرفاً لأنه مقيد بحبه موثق بقلبه، يحبه الحب كله ويخافه الخوف كله، فيا له من محب يخاف محبوبه، وراغب يرهب مرغوبه، إن الشيخ سلامة أكثر من أمة كاملة تجمعت في هذا الجسم الذي هزه الجهاد وأبراه الكفاح وأبعده طول السير في طريق الله».

ويتحدث مريدو الطريقة الخليلية عن شيخهم على المنوال نفسه فيقولون: «ولقد أوقف شيخنا نفسه وماله وجهده على الدعوة لله تعالى، وجمع كل القلوب إليه فعكف على شفاء النفوس من العلل والأغيار... وكان رضي الله عنه المثل الأعلى في مكارم الأخلاق، وكان كالبحر مدراراً لا يدرك قراره، ولكن كان مورده العذب مباحاً لكل قاصد حتى من غير أتباعه ومريديه».

وهذا الاعتقاد في اتصاف الشيخ بالمثل العليا جعل مريديه يتبعونه ويقتفون أثره من دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التدبر ومشقة التفكير. وهذا يعني من منظور علم الاجتماع السياسي أن التنشئة داخل الطريقة الصوفية تقوم على التقليد والمحاكاة بوعي أو من دون وعي، وفي هذا يقول مايكل جيلسينان في كتابه «التعرف على الإسلام والدين والمجتمع في الشرق الأوسط»: «إن المريدين يعتقدون أن الشيخ يستمد سلطانه من أمر إلهي يأتيه في المنام على هيئة رؤيا، ولذا يستقر في أذهانهم أن مخالفة الشيخ هي عصيان لله تعالى»، ومن هنا نفهم سر قول مريدي الخليلية «إن الإخوان الخليليين انطبعوا انطباعاً بسر شيخهم، واقتفوا أثره في صدق وإخلاص».

ويقول مريدو الحامدية الشاذلية في هذا الشأن: «لقد قلد المريدون الشيخ وحاكوه في كل شيء حتى في حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله وطريقة تفكيره، أليس هو المثال الكامل والقدوة الصالحة وإنسان العين وبيت القصيد؟! إن اعتقاد الإخوان في الشيخ اعتقاد جازم وحازم كاعتقاد المرء بأن عينه تبصر ولسانه ينطق وعقله يفكر وأنه إنسان حي له شعور وفيه قدرة ولديه إدراك».

ويأتي العهد بين المريد والشيخ ليكرس هذا الخضوع والانصياع الكامل من قبل المريد لشيخه في شكل التزام ديني صارم، فعلى سبيل المثال يأتي العهد المتبع في الحامدية الشاذلية على النحو التالي: «إني عاهدت الله وأعاهد الله وأعهد إلى الله وأشهد على نفسي، بأنني قد التزمت السمع والطاعة لشيخي هذا فلا أخلفه بقلبي ولا بجوارحي ولا لساني وقد جعلت هذا نذراً عليَّ لله، وعهداً شرعياً صحيحاً صريحاً جازماً ناجزاً بتاً ظاهراً وباطناً مادمت حياً وعلى نية شيخي هذا، ومطالباً به في الدنيا والآخرة ومسؤولاً عنه بين يدي الله تعالى، فإذا خالفت شيخي هذا أو نكرت عليه، أو اعترضت أو غيرت أو بدلت، أكون خائناً وناكثاً وناقضاً لعهود الله ومواثيقه...».

ومن أصول الطريقة ألا ينازع التلميذ شيخه ولا يطلب منه دليلاً على ما أمر به أو فعله، ومَن اعترض على الشيخ فقد نقض عهده وانقطع عن شيخه ولو كان ملازماً له وانسد باب «المدد» الذي هو مرهون برضاء الشيخ. وفي الحضرة لا يُسأل الشيخ عن أفعاله بداخلها وتنظيمه لها ولا يجوز الزيادة في الأوراد إلا بإذنه كما يحرَّم على التلميذ أن يأخذ ورداً من أحد غير شيخ الطريقة، وكل واقعة كشفية أو رؤيا منامية لا يجوز للتلميذ أن يخبر بها أحدا سوى شيخه، الذي تلقن منه ولا يجوز له أن يذهب إلى حضرة أي شيخ آخر. والإرادة هي أن يلقي التلميذ بنفسه بين يدي شيخه ويسلم له قياده ويكون بين يديه كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كما يشاء، ولا يعترض عليه بقلبه ولا بلسانه ويسلم له كل ما يراه منه ولو كان على غير ظاهر الشرع.

فطالما «توافرت في الشيخ الشروط التي تجعله مربياً نافعاً وشيخاً كاملاً كان له الحق في أن يشتري المريد ويتصرف فيه تصرف السيد في القن، وعلى المريد أن يبيع نفسه إليه بيعاً، وأن يسلم قلبه له تسليماً، وأن يتخلص من حوله وقوته وإرادته إلى حول الشيخ وقوته وإرادته». ونظراً إلى هذه المكانة الرفيعة للشيخ في نفوس مريديه وعقولهم، فإن غيابه يترك لديهم فراغاً كبيراً لا يعوضه أي شيء آخر، فها هو مريد يقول: «أصبحت كاليتيم لما توفي شيخي، لقد كانت لشيخي أحوال عجيبة وأعمال فوق النواميس»، وقال الخليليون في وفاة شيخهم محمد أبو خليل «إن الفراغ الذي جاء بعد موت الشيخ فراغ كبير لا يمكن ملؤه لأن مثل الشيخ لا يظهر إلا على فترات بعيدة، ويكون ظهوره من المفاجآت النادرة».

من كل هذا نجد أن الشيخ يلعب دوراً محورياً في الطريقة الصوفية، ويؤثر في واقعها تأثيراً هائلاً، ويقوم بوظيفة «الضبط الاجتماعي» بشكل كبير وعبر طريقتين، الأولى: هي طريق مباشرة، حيث يقوم الشيخ بتوجيه مريديه توجيهاً مباشراً سواء في ما يتعلق بشؤون الطريقة الروحية والإدارية أو ما يتعلق بالمشكلات الخاصة للمريدين والتي تعرض عليه، أما الثانية فهي طريق غير مباشرة تقوم على أساس الإيمان بمسؤولية الشيخ عن حماية الأتباع الذين يرتبطون به ويعتبرون أنفسهم محسوبين عليه.

ومن ثم نجد أن «المريد» هو «تابع مطيع» أمين لشيخه بشكل تكاد تنتفي فيه شخصيته تماماً، فلا رأي له فيما يتلقاه ولا يستطيع أن ينخرط في طريقة أخرى أو يعترض على أمر قائم «فمن اعترض امترض» كما يقول المتصوفة، ومن تمادى في اعتراضه طرد من الطريقة وفقد «المدد»، وهذا يعني أن إحدى قيم الديمقراطية المهمة، وهي الحرية تغيب تماماً في ظل العلاقة بين الشيخ والمريد، فالشيخ أكثر قدرة على الفهم وتقييم الأمور في نظر مريديه، والاعتراض عليه معصية لله يجعل الالتزام الأخلاقي مع الطريقة يحمل إكراهاً معنوياً للمريد يتعدى في أغلب الأحيان النفوذ الذي يوجبه الالتزام القانوني.

* كاتب وباحث مصري