* لسوء حظي تزامن تاريخ مغادرتي للقاهرة مع افتتاح مهرجان تبادل الكتب عشية أمس، الذي تقيمه مؤسسة «ساقية الصاوي» الثقافية الأهلية المدهشة؛ بالتعاون مع دار الكتب المصرية، والحق أن «ساقية الصاوي» تستأهل مقالات عدة تعرف بحضورها الثر المتنوع في الثقافة والفنون والآداب، إلى حد أنها باتت تنافس وتبز أنشطة المؤسسات الثقافية الحكومية كما ونوعية! حسبك أن تعلم أن المكان الذي تشغله المؤسسة كان «مزبلة» تزكم أنوف المارة بنهاية شارع 26 يوليو بحي الزمالك، لكن أنجال الأديب الروائي الراحل «عبدالمنعم الصاوي» أحالوا الفضاء القبيح إلى «ساقية» تروي العطاش إلى المعرفة والثقافة والتعليم والتربية الروحية والبدنية، وكل فعل يصبو نحو الأرفع والأنفع، ويمكث في الأرض لعمارة الإنسان روحا وجسدا إلى ما شاء الله.

Ad

لقد جرت العادة في الأقطار العربية على أن تكون الصدقة الجارية التي يحرص الورثة على حضورها؛ لتخليد ذكرى فقيدهم؛ محصورة في بناء مسجد جامع فقط لا غير!

وكأن الصدقة الجارية لا تكون كذلك إلا بتشييد جامع! ومن هنا تكمن أهمية الإفتاء والتوعية والإرشاد بشأن فقه الصدقة الجارية؛ ليدرك العامة أنها مشرعة على كل فعل اجتماعي تنموي يمكث في الأرض؛ لحاجة الناس الماسة إلى وجوده. الشاهد أن أنجال الصاوي (من الجنسين.. ابتدعوا صدقة جارية حضارية حرية بالتقليد والتأسي، ليس داخل مصر فحسب، بل في الديار العربية كافة، كما يحدث في الديار الغربية التي لا تتكئ على كيس الحكومة والدولة فقط لإنشاء المؤسسات التعليمية والثقافية وغيرهما! بحيث تنسب أشهر الجامعات والمعاهد ومراكز البحوث والمسارح وغيرها إلى أفراد وعائلات وجماعات وجمعيات أهلية مكرسة لخدمة مجتمعاتها إلى يوم الدين.

ما علينا فالمهم في هذا السياق هو: مهرجان تبادل ومقايضة الكتب القديمة بين مريدي خير جليس، حيث تتحول المناسبة إلى فرصة ذهبية لإشاعة ديمقراطية المعرفة والثقافة الجماهيرية، ليكون الكتاب كما الرغيف متاحا لكل فم! وهذا المنحى يجسد رؤية «الساقية» وفعلها لسقاية العطاش عصائر الثقافة والفنون والآداب وغيرها من ألوان المعرفة المعجونة بالبهجة المتصالحة مع أطايب ولذائذ الحياة الدنيا؛ التي يحتاجها الإنسان كالماء والهواء والطعام.

إنه لأمر جميل أن تجد كتبك العتيقة المركونة، بين يدي قراء جدد، وتحظى بدورك بكتبهم التي فاتتك قراءتها، الأمر الذي يحيل مناسبة المهرجان إلى مكتبة متنقلة تجسد إشاعة الثقافة الجماهيرية بواسطة القراء مريدي الكتاب أنفسهم، ولعل رابطة الأدباء، ولقاء الثلاثاء وغيرهما من الجمعيات المعنية بالثقافة والفنون والآداب الاحتفاء بفكرة المهرجان وتجسيده على أرض المعارض، بموازاة معرض الكتاب السنوي في شهر نوفمبر، أو في أي وقت مناسب يراه القيمون عليها، ولعل أبناء جيلي العجوز المخضرم يتذكرون سوق «سور حديقة الأزبكية» المزين بالكتب القديمة البخسة الثمن، والتي أثرت معارفهم ومكتباتهم بالمصنفات الأدبية والفكرية وغيرهما من ألوان المعرفة. والسؤال المهم هو: من يبادر بإقامة سوق ومعرض تبادل الكتب القديمة، بدلا من أن ترقد هذه الأخيرة في المخازن المتربة لتعشش فيها العناكب آمنة مطمئنة، لذا، أقرض كتبك العتيقة لمن يريد، بدلا من أن «تقرضها» الفئران رغم أنفك! أو (لا تسجن معرفتك وبادل كتبك) كما يقول شعار مهرجان «ساقية الصاوي» الطيب الذكر.