يقول أحد كتاب أيرلندا "حين أكتب لا يستطيع القارئ أن يعرف هويتي الأيرلندية كما يفعل مستمعي وأنا أحدثه، ان ذلك يزعجني جدا". تنجح اللغة، واللغة فقط، في تحديد هوية الكاتب الثقافية وانتمائه. لا يمكن تحديد هوية الكاتب بناء على موضوعه أو المكان الذي يحوي شخوصه ولا ماهية الشخوص وأعراقهم في العمل الأدبي. جوزيف كونراد كاتب إنكليزي رغم أنها لغته الثالثة. انتماء الكاتب إلى لغته التي اختارها هي انتماء الى ثقافته وجذورها واعتزازه بتلك الثقافة والجذور.

Ad

هذه المقدمة هي باختصار ما أود مناقشته من وثيقة السيد عادل الصرعاوي رغم أنها، أي الوثيقة، جاءت على شكل رؤوس أقلام وتعريفات عامة في مجملها. وسأقسم مناقشة المقدمة الى فرعين من العلوم: العلوم البحتة والعلوم الإنسانية. قبل كل ذلك أتقدم بالشكر إلى السيد الصرعاوي الذي وجد وقتاً لكتابة الوثيقة بعيداً عن الصراعات الهامشية التي انتشرت مؤخرا في النقاش البرلماني، وكان هو أحد رموزها.

نقاش الهوية الثقافية واللغة تحديدا كإطار لتعريف هذه الهوية يجرنا قسرا الى التعليم الذي يحدد مخرجات وهوية المتعلم. لم يكن الخيار المتاح أمامنا في تعليم أبنائنا العلوم البحتة يمنحنا غير فرصة وحيدة وهي الاتجاه نحو لغة العلم الأكثر انتشارا، أي اللغة الانكليزية. فكانت هي لغة التعلم في جامعتنا اليتيمة واثبات القدرة على اكتسابها هو الطريق الى اكتساب المعرفة العلمية في الطب والهندسة والعلوم. ولا يمكن أن نحمّل أبناءنا فشل المؤسسة في ايجاد وسيلة أخرى للتعليم. في ظل هذا التكريس اللغوي للغة الأجنبية وتبنيها كلغة وحيدة في المكتبة والمؤتمرات العلمية والدوريات الجادة كان من الطبيعي أن يفقد الدارس لغته العربية، وحفاظه على هويته كان يتم بمجهوده الفردي ومطالعاته الجانبية ومساهماته الاجتماعية. الرطانة التي يتحدث عنها السيد الصرعاوي، والتي استخدمها هو في وثيقته في أكثر من موضع وأحيانا دون داع، كانت نتيجة طبيعية لحياة طويلة من التعلم بلغة أجنبية لا مفر فيها من استخدام المصطلح الأجنبي حين يفشل المصطلح العربي البديل المتوافر في تحقيق الغاية، خصوصا أن الكثير من المصطلحات العربية يثير الضحك والشفقة أحيانا حين استخدامه.

ليكن ما ذكرناه في الجانب العلمي مقبولا، ولم يكن الخيار المتوافر، لغويا، غير استخدام اللغة الأم للعلوم والتكنولوجيا. المأساة الحقيقية في الجانب الآخر وهو تعلم العلوم الإنسانية. وهي العلوم التي يمكن الاستغناء فيها عن اللغة الأجنبية، ويبدو أننا أيضا فشلنا في تأسيس لغة عربية نقية لهذه الفروع أيضا. فاللغة العربية هي مادة أساسية فقط للحقوق والشريعة واللغة العربية بالتأكيد. أما بقية الفروع العلمية فهي أيضا ما نوجه أبناءنا إلى دراستها في الخارج، والمحصلة مزيد من الابتعاد عن الهوية الثقافية التي تمثلها لغتنا العربية.

الذي تجاهلته وثيقة السيد الصرعاوي هو الانتشار المذهل للتعليم الأجنبي داخل الكويت لا خارجها، وهو انعدام الثقة بين ولي الأمر والمؤسسة التعليمية الوطنية. وما تبقى للجيل الباحث عن مستقبله العلمي هو اللهجة المحلية الدارجة والفجوة العميقة بينها وبين اللغة العربية البسيطة لا الفصحى "المقعرة"، كما أطلق عليها الصرعاوي، أو الكلاسيكية إن شاء. فالمنطوق يهزم المكتوب دون جهد. سيدي الفاضل الفتق يصعب على الراتق وبحاجة الى نسف كامل للنظام التعليمي. فهل نرى وثيقة كاملة تتفقون عليها لإصلاح هذا الخلل؟ أشك في ذلك!