أهلاً بالمرأة قاضية

نشر في 15-03-2010
آخر تحديث 15-03-2010 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري رفض مستشارو مجلس الدولة المصري بأغلبية ساحقة 89% تعيين المرأة قاضية، وذلك في الاجتماع الاستثنائي للجمعية العمومية للمجلس بتاريخ 1522010، وصوَّت 334 قاضياً من أصل 380 قاضياً ضد التعيين وكان 42 قاضياً فقط مع التعيين وامتنع 4 قضاة عن التصويت.

جاء هذا القرار المفاجئ، وفي هذا الوقت الذي يحتفل فيه العالم بإنجازات المرأة صادماً للأوساط الحقوقية في مصر، كما شكل تراجعاً لحقوق المرأة فيها، خصوصاً أن المرأة المصرية تشغل وظائف قضائية متعددة الدرجات، فكان من الطبيعي أن يتصدى ائتلاف حقوقي من 39 منظمة لهذا القرار ويعتبره "ارتداداً عن حق تم إقراره بعد كفاح وحوار ممتد داخل المجتمع المصري، حسمته الإدارة السياسية". وتعرض القرار لانتقاد وهجوم واسعين من كل المعنيين بحقوق الإنسان والمنظمات النسائية في مصر وخارجها، ووصل بعض النقد إلى المساس بهيبة القضاة، وهو أمر مرفوض فكتب وحيد عبدالمجيد يقول: رجاء لا تذبحوا القضاء! مؤكداً حق المرأة لكن استقلال القضاء والحفاظ على هيبة القضاء لا يقل أهمية عنه، كما نظم عدد من الحقوقيين وخريجات كليات الحقوق وقفة احتجاجية أمام المجلس لأن من شأن استمرار القرار أن يسد أبواب الأمل أمام الخريجات في أن يشغلن مستقبلاً أي وظائف قضائية، وقالت رئيسة مركز حقوق المرأة: "إنه يوم أسود في تاريخ المرأة المصرية".

وقد جاء تراجع المجلس عن تعيين الخريجات بعد أن نشر المجلس نفسه قبل شهر إعلاناً يدعو الخريجين والخريجات للتقدم لشغل وظيفة "مندوب مساعد" بالمجلس شريطة الحصول على تقدير "جيد جداً" في جميع سنوات الدراسة، وتمت المقابلات ونجح في الترشيح 443 من الذكور و193 من الإناث، ووافق المجلس الخاص ووقعوا على كشوف المقابلات، واستمرت إجراءات التعيين وفجأة طلب بعض المستشارين عقد جلسة طارئة للجمعية العمومية للمجلس ليصدر قراراً برفض تعيين المرأة قاضية، وهذا ما دفع المستشار محمد الحسيني أن يصرح بأنه: "لا يجوز لأي جهة في الدولة أن تعلن قبول الخريجات ثم تتراجع، لأن هناك حقوقاً مكتسبة للإعلان الذي تم"... ولا يستبعد الحسيني وجود أيد خفية وراء ما حدث في المجلس! التساؤلات المطروحة: لماذا استبعاد المرأة عن العمل القضائي؟! ولماذا تتفق أغلبية القضاة بالمجلس على حرمان المرأة المصرية من حق دستوري تمارسه كل نساء العالم؟! وما تفسير أو مبررات الرفض؟! حقيقة ومن خلال ما أثير وما قيل لا نجد أي مبررات أو مسوغات قوية لقرار الرفض؛ فالبعض من القضاة ينطلق من دوافع الإشفاق على المرأة من مشقة العمل القضائي مما يشغل المرأة عن رعاية البيت والاهتمام بالطفل وخدمة الزوج، وهناك من قال إن المرأة القاضية عندما تكون حاملاً فإن شكلها يؤثر في هيبة القضاة وساعات الرضاعة تؤثر في سير الدعاوى التي تنتظرها. وأضاف بعضهم أن المرأة إذا دخلت المجلس وأصبحت قاضية فقد يتم إرضاؤها على حساب القاضي الرجل لأن المستشار في المجلس لا يجوز له أن يبقى في محافظة واحدة فترة طويلة، إذ يتم نقله إلى محافظة أخرى، ووقتها ستقول المرأة لا أستطيع الذهاب إلى أسيوط مثلاً، وفي هذه الحالة لن نرغمها، ولكن في نفس الوقت لا نستطيع أن نتركها تعمل في نفس المحافظة خوفاً أن "تجامل أقاربها ومعارفها في الأحكام". هذه أبرز التبريرات أو التفسيرات وأجدها غير صالحة كمستند لقرار الرفض، وأنا أستغرب صدورها ممن يتطلب عملهم الدقة والموضوعية في إصدار الحيثيات، وفي تصوري أن كل ما ذكروه يندرج تحت أمر واحد هو "مخاوف" أو هواجس وبلغة الفقهاء "ذرائع موهومة". وواضح لكل متبصر محايد أن قرار منع تعيين المرأة قاضية منطلقه الأساسي "مشاعر نفسية وعاطفية قلقة" تجاه تعيين المرأة قاضية، لا تثق بقدرة المرأة في العمل القضائي أولاً تريد أن تقتنع بكفاءتها، وهذه "حالة نفسية" لا علاج لها، مهما أثبتت المرأة جدارتها، لأنه لا علاج لما ترسخ في اللاوعي من خبرات سلبية تجاه المرأة منذ التنشئة الأولى، هذه الحالة يصفها المفكر السعودي إبراهيم البليهي بـ"البرمجة" السابقة على التعليم، حيث يتشرب الطفل الثقافة المحيطة- تلقائياً- و"يتبرمج" عليها فيصبح أشبه بالنقش في الحجر لا يزول مهما تعلم المرء وحصل على شهادات عليا، وترقى في المناصب الإدارية، إذ يصعب الانعتاق عن البرمحة الأولى، خصوصاً إذا كانت البنية المجتمعية تسودها ثقافة سلبية تجاه المرأة. والقضاة في النهاية بشر كبقية أفراد المجتمع مهما افترضنا فيهم العدالة والنزاهة، لكنهم لا يستطيعون تجاوز ثقافة مجتمعاتهم أو الخروج عنها فهم منغمرون فيها ويسبحون في محيطها، وهي تحكمهم وتتحكم بهم لا شعورياً، ومجتمعاتنا لاتزال تنظر إلى المرأة كونها طاغية في عواطفها وجياشة في مشاعرها تحكمها الأهواء والميول والرغبات، فقد لا تحسن التصرف في الأمور، فلابد من الواصي الرجل القوام على شؤونها حتى لا تضل فتشقى، وهؤلاء القضاة هم في النهاية أبناء نشأتهم الأولى ولا تثريب عليهم إن أبعدوا المرأة عن القضاء خوفاً من انحيازها إلى معارفها وأقاربها! ومع ذلك ومع احترامنا وتقديرنا لوجهة النظر الرافضة فمن حق الآخرين أن يناقشوا ويفنذوا بما يأتي:

1- الواقع الاجتماعي المصري يثبت أن مساهمة المرأة المصرية تشكل الدور الأبرز فيه، فثلاثة أرباع الطبقة الفقيرة تعولها النساء دون الرجال، المرأة المصرية تساهم في الميادين كافة من تشريح الجثث إلى بناء العمارات؛ مهندسة وطبيبة وأستاذة جامعية ومحامية وسفيرة ووزيرة، وهي تقوم بثلاثة أدوار وبكفاءة: موظفة أو عاملة وزوجة، وأماً لأطفال وكثير من أبناء العاملات متفوقون ويحصلون على المراكز الأولى وهم ناجحون، وهي تعمل ضابطة شرطة وطبيبة تخرج ليلاً وتعاين حوادث جسيمة وتعمل عالمة ذرة... فهل يصعب عليها القضاء وهي تمارسه فعلاً؟!

2- شغلت المرأة المصرية على امتداد نصف قرن وظائف في الهيئات القضائية المختلفة بداية بهيئة النيابة الإدارية منذ عام 1958 ووصل عددهن إلى 1500 امرأة، ومروراً بهيئة قضايا الدولة 137 امرأة حتى وصلت عام 2003 إلى المحكمة الدستورية العليا حيث تشغل المستشارة تهاني الجبالي منصب نائب رئيس المحكمة، وانتهاءً بدخول المرأة في مجال القضاء التقليدي عام 2007 حيث دخلت 42 قاضية، ولم يصدر ما يشير إلى مخاوف من حكم النساء.

3- أصدر المجلس الأعلى للهيئات القضائية قراراً في عام 2003 بجواز تعيين المرأة في القضاء، فلا يجوز لأي هيئة قضائية أن تنقض ما اتفق عليه جميع الهيئات القضائية.

4- المرأة العربية في 11 دولة عربية تمارس القضاء بشكل طبيعي ودون مخاوف أو شكوى... فلماذا تكون المرأة المصرية استثناءً سلبيا؟! لقد وصل عدد القاضيات العربيات إلى ما يقرب من 10 آلاف قاضية، ونصف القضاء المغربي وثلث القضاء الجزائري واللبناني والتونسي من النساء. فالمرأة قاضية في المغرب منذ 1958، ولبنان 1966، واليمن 1969، والأردن 1997، والبحرين 2007، والإمارات 2008، وجاءت الأخبار السعيدة أخيراً بتعيين قاضية في قطر والبقية تأتي بإذن الله تعالى.

5- وقعت الجمعية العمومية لمجلس الدولة في خطأ دستوري، إذ لا يجوز الاستفتاء على حق دستوري وطبيعي لأن الحقوق سابقة على التشريعات والدول كافة "ولقد كرمنا بني آدم"، والحقوق جزء من التكريم لا استفتاء عليها لأنه انتقاص من التكريم وغير جائز، ولهذا يعجبني قول المفكر المصري طارق حجي: "إن مناقشة جواز أو عدم جواز وصول المرأة لأي موقع هو في حد ذاته- إهانة فكرية".

6- مسألة "عاطفية المرأة" يجب تفكيكها، وهي وهم كبير من أوهام مجتمعاتنا تشيع بيننا، ونلقنها لطلابنا وترددها منابرنا، المرأة في العمل كالرجل تماماً وعندنا تجارب نساء العالم كلها، لا عاطفة للمرأة في العمل، بل قد تكون أكثر صرامة وحزماً، ولنسأل من يعملون تحت قيادة المرأة، عاطفة المرأة مجالها الوحيد في بيتها ومع زوجها وأولادها وأهلها أي خارج نطاق العمل، وقد أثنى القرآن الكريم على عقلية ملكة سبأ.

7- المرأة قاضية بالطبيعة وبالفطرة، فهي التي تحقق وتراقب وتحاسب وتحكم، بل تتحكم بتصرفات زوجها وأولادها يومياً أين كانوا؟ ومن قابلوا؟ وماذا فعلوا؟ ومن يشكك في قدرات المرأة القضائية والتحقيقية مكابر! كما يقول الكاتب حامد نجيب الذي كتب مقالاً: القاضيات قادمات يقول فيه: أيها الرجال افسحوا الطريق فالقاضيات قادمات ولم تكن أحكامهن ناعمة، كما يقال عن جنسهن، فقد جربتم أحكامهن كزوجات وأهلاً بالمرأة قاضية أو بـ"المرأة القاضية".

8- أليس عجباً أن يتطور الفكر الديني نحو دعم حق المرأة في القضاء- فيصرح شيخ الأزهر د. محمد سيد طنطاوي- رحمه الله- بأن الشريعة لا تفرق بين الرجل والمرأة في تولي المناصب بما فيها القضاء، لأنه لا توجد نصوص قطعية تمنعها من العمل قاضية، في الوقت نفسه الذي يتراجع فيه الفكر القانوني لحراسة العدالة وحماية حقوق الإنسان! ومن ناحية أخرى تتطور حقوق المرأة في قطر لتصبح قاضية وتنتكس حقوقها في مصر بعد قرن من الانفتاح الاجتماعي! أليس ذلك عجباً؟!

 

* كاتب قطري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top