كنت أظن أن لحم الحاشي، الذي يباع في الجمعية، هو لحم خاص بطبخ الهريس، وحين اكتشفت أنه لحم الجمل أُصبت بالدهشة، ففي حالة بيعه في الجمعيات فهذا يعني أن هناك جمالاً كثيرة تذبح حتى تسد حاجة جميع الجمعيات في الكويت وأسواقها، وأنا لا أتصور أن هذا المخلوق الكبير يُذبح ليؤكل، كما أني لا احرم ما أحله الله، ولكن يبدو لي أن الجمل حيوان نبيل يملك إدراكا أعلى وأسمى من بقية الحيوانات، وقد قال لي قصاب إن الجمال تبكي حين تسمع صياح الجمل المذبوح، وتأكدت من هذا الكلام حين شاهدت فيلمThe Story Of The Weeping Camel، وهو فيلم وثائقي في منتهى الجمال، وكنت قد شاهدته في مهرجان ميامي السينمائي منذ عدة سنوات، واشتريته أخيراً من لندن، وهو من إخراج Byambasurer Davaa الذي حدثنا عن سبب إخراجه لهذا الفيلم الواقعي فقال: إنه سمع من تلميذته المنجولية أن الناقة التي تتعثر ولادتها ترفض وليدها من بعد ولادته، لا ترضعه ولا تجعله يقترب منها، ترفضه تماما من شدة غضبها منه، ومن إحساسها بالألم الذي سببته لها ولادته.

Ad

ومن هذه المعلومة يذهب المخرج مع فريق عمل كامل مع كل أجهزته إلى منجوليا التي يقضون فيها حوالي سنتين مع القبائل المنجولية وقطعانهم من الجمال والأغنام المنتشرة في الصحراء الباردة والقاسية في مناخها المتطرف.

وهناك يحضرون ولادات كثيرة، ولكن ليس من بينها ولادة متعسرة، وفي نهاية الأمر يحصلون على غايتهم في آخر ولادة هناك لآخر ناقة عندهم، ومن هنا تبدأ متابعتها من لحظات الولادة الأولى حتى خلاصها من الجنين.

ومن هذه اللحظة تبدأ في معاملة الوليد بقسوة وبكراهية، تهرب منه حين يلاحقها وتقوم بعضه وركله وتمنعه من رضاعتها حتى يتعب ويبات مهددا بالموت وبالنبذ.

والغريب أن هذه الحالة لا تزول إلا بالمعالجة بالموسيقى، ولذا تستقدم القبيلة مدرس الموسيقى من القرية القريبة، ليقوم بربط آلة موسيقية تشبه آلة الكمان على بطن الناقة حتى تشعر بذبذباتها ممزوجة بضربات قلبها.

ومن ثمة يقوم المدرس بحل الآلة الموسيقية ويبدأ في العزف عليها، وتصاحبه إحدى نساء القرية بالغناء الحزين وبحنجرة ترن أصداؤها في جوف هذه الفضاءات الشاسعة الساكنة بين الوحشة والوحدة والصمت الرهيب.

ومع استمرار العزف والغناء تبدأ الناقة في البكاء، وتخضل دموعها وجهها ورموشها حتى تهدأ روحها وتتخلص من غضبها وحزنها المكبوت.

وحينها يحضرون لها وليدها لتشمه وتقربه منها وتمكنه من رضاعتها بكل حنان الأم.

من بعد مشاهدة هذا الفيلم الذي يمس شغاف القلب، وهو فيلم وثائقي يقدم الحقائق من دون أي تجميل أو تزييف، وقد صور بين أفراد القبيلة ذاتها من دون أي مشاركة لممثلين فيه... صدقوني لا أظن أن هناك من يستطيع أن يأكل لحم أي جمل، أي لحم حاشي بعد مشاهدته هذا الفيلم.