سألني صديقي، وهو شاعر أديب أريب، منذ أيام عن قهوتي، فأجبته بكل بساطة بأني لا أفضل «معاقرة» القهوة إنما «أتعاطى» الشاي، وإذا به، وبكل أدب طبعا، «يشرشحني شرشحة»، لم يمر عليّ مثلها من قبل، حتى كدت أتنازل عن الشاي لمصلحة القهوة، بل أتوب عنه توبة نصوحا، فلا أعود أحتسي منه كوبا أو «استكانة»!

Ad

تبين لي أن صديقي الأديب يعتبر شرب القهوة، طقسا من طقوسه الروحانية-الإلهامية، أو هكذا خيل لي ربما، وأن المسألة عنده ليست مجرد تناول لمشروب يفضله عن غيره، بل الأمر أكثر من ذلك بكثير، فقد ظهر لي، أو هكذا خيل إلي ربما أيضا، بأن طقس تناول فنجان القهوة يرتبط عنده ارتباطا وثيقا بمعادلة التخليق الإبداعي، وأن «البن» عنصر محفز، بل عنصر أساسي، لابد من توافره ليسري ويندفع التفاعل في ثنايا مخيلته وتلافيف عقله، وليستحيل الخيال إبداعا على الورق، وهو الذي له بضعة من كتب ودواوين، والتي أخالها لم تخرج للناس إلا من بعد إدمانه القهوة!

انهال صديقي علي ساخرا من شايي، منتصرا لفنجان قهوته، كاشفا كيف أن الأدباء قد احتفوا واحتفلوا بالقهوة أيما احتفاء واحتفال، في حين ألا ذكر ولا اهتمام بالشاي البتة، وأن الدليل على ذلك أن الذاكرة الأدبية الفصحى والشعبية تمتلئ بالشعر حول القهوة وتعاطيها وطرق تحضيرها، وأن العرب من حبهم لها يسمونها بأسماء كثيرة منها «الكيف» لأنها تريح البال وتشرح الصدر، في حين لا يعلق في الذاكرة شيء من شعر أو من نثر حول الشاي، اللهم إلا تلك الأغنية «الداثرة» التي تقول: «خدري الشاي خدريه، عيوني إلمن أخدره»، وكفا به قدرا للشاي!

والحق أن كلام صديقي في هذا الجانب صحيح، فقد لجأت للعم «غوغل»، بحثا عن أي شيء من الشعر أرد به على صاحبي، فلم أخرج ولو بمقدار ملعقة شاي، وكلما ناديت يا شاي، جاءتني القهوة تترى، قصيدة قصيدة وبيتا بيتا وفنجانا فنجانا، اللهم إلا قصيدة يتيمة يقول مطلعها:

دعوا شربكم للخمر فالخمر مسكر وفي الشرع كل المسكرات حرام

وهيموا بشربكم اتاي(*) فإنه حلال وليس في الحلال ملام

فألقيت الشعر جانبا، وقلت لنفسي، ماذا دهاك يا رجل؟ أنت طبيب ولست بشاعر، ولا ينبغي لك، فإن نازلك صاحبك على أرضه، فكر وفر، والحرب خدعة، فاسحبه إلى أرضك، حيث تعرف المعالم وتدرك شكل التضاريس، فغيرت وجهة سفينة العم «غوغل»، ويممتها شطر الصفحات الطبية، بحثا عن مزايا الشاي وفوائده الصحية، فظفرت ببغيتي وصببت من فوائد الشاي، أقداحا وأقداحا، وكان لي ما أردت!

إن نحن أردنا أن نتحدث من ناحية الصحة يا صديقي، فإن كوبا من الشاي، لكفيل بأن يسقط كل فناجين القهوة التي تحتسيها بالضربة القاضية بل يكسرها، ففي كوب من هذا المشروب الذهبي أقل من نصف ما في مثيله من القهوة من مادة الكافيين المعروفة للجميع بمضارها، كما أن له من الفوائد الصحية التي تناقلتها الحضارات منذ آلاف السنين، ولايزال العلم الحديث يثبتها يوما بعد يوم، مالا تحيط بفهمه ولا تدركه خيالات الشعراء، ويوجد فيه من المواد، وبالأخص مما يعرف بمضادات الأكسدة، وهي المواد النفيسة التي كشف العلم عن فوائدها الجمة في الحماية من السرطان، ما يفوق بمراحل ما يوجد في كمية موازية من القهوة، تلك الحبيبات المحمصة الرعناء التي لا يعرف لها من الفوائد الطبية شيئا على وجه الدقة بحسب ما تشير المصادر الطبية المعتمدة، ولا الدواوين الشعرية وأبيات الشعراء الشعبيين، إلا قدرتها الفذة على السيطرة على الإسهال، أجلكم الله!

إذن فهذا هو القول الفصل، وما عدت بحاجة لاستدرار عطف العم «غوغل» عله يسعفني بأبيات من الشعر أنتصر بها للشاي، مشروبي المفضل بلونيه الأسود الذهبي والأخضر، فكفى به أنه الشراب الذي اكتشفه الصينيون منذ أكثر من 2500 سنة قبل الميلاد، وعرفوا فوائده وخبروها جيدا ونقلوها للعالم أجمع، وما همني أن تزخر الدواوين، وقريحة صديقي الأديب الشاعر ومن لف لفه بأبيات تتغنى بالقهوة، وهي التي لم يكتشفها الناس إلا في القرون المتأخرة، بطريقة بلهاء، حيث عثر عليها راع أثيوبي في أحد الجبال بعدما أكلت منها أغنامه، لتبقى مؤرقة طوال الليل، حسبما تقول الأسطورة!

* الشاي باللهجة المغاربية.

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة