آمال الحضر... هم السبب

نشر في 28-07-2009
آخر تحديث 28-07-2009 | 00:00
 محمد الوشيحي فضلاً لا أمراً، اركب سيارتك وخذ جولة على الجمعيات التعاونية في مناطق القبائل، أي في محافظات الأحمدي والجهراء والفروانية، أو توجه مباشرة إلى جمعيتي الصباحية وضاحية جابر العلي، اختصاراً للوقت، ولا تنسَ أن تضع في أذنيك سدادة تخفف الصخب، وأن تكمم أنفك بمنديل معطر أثناء جولتك الميمونة، وستستمتع بإذن الله.

بعد ذلك، لفّ مقود سيارتك وولّ وجهك شطر جمعية الشامية، لكن لا تحرص هذه المرة على السدادة ولا المنديل، بل متّع ناظريك وأنفك وأذنيك، وقل لصاحبك الماشي بجوارك، على طريقة نجيب محفوظ: "لكَم قضضت مضطجعي أيها المتهدل الأوداج، فهَلُمّ نتناول قدحاً من شراب الليمون المثلوج، ليحدجك صاحبك بنظرة يعتورُها الحنق، ويكابد غيظاً يستعر أواره في حنايا صدره، ويتمتم: فليزدردك الموت". الله يرحمك يا أديب يا أريب يا نجيب ليتك رأيت جمعيتنا كيف تعرض الحفاظات في رف الحليب.

الحضر فيهم خبث، والعياذ بالله، يأخذون الجمعيات النظيفة ويتركوننا نعابل المزابل، وجمعياتهم توزع أرباحاً أكثر من جمعياتنا، رغم أن الكثافة السكانية عندنا تكاد تصل إلى الضعف، ولكنها أنانية الحضر. وهم فوق خبثهم وأنانيتهم، يحرصون على نظافة جمعياتهم ويملؤونها بما لذ وطاب من أحدث ماركات التجميل والمطاعم الفاخرة والأطياب، بينما تمتلئ جمعياتنا بما لذ وطاب من الذباب.

وكنت ذات ليلة لبنانية، في طريقي إلى "رومية" في جبل القليعات، أردد مع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب رائعته الخالدة "من غير ليه"، وأقود سيارتي على أنغام المهل وأرفع صوتي نشوانَ: "حتى في عز عذابي باحبك، عارف ليه؟ من غير ليه، حبيبي، حبيبي، كل ما فيك يا حبيبي حبيبي، شعرك ليلي، جبينك قمري، وحبك رحلة عمري وقدري..."، فإذا بازدحام مهول للسيارات أمام أحد المطاعم الكبرى على الطريق العام، فتوقفت عن الغناء، وركنت سيارتي ودخلت، فاعترضتني صبية لا أظنها بلغت عامها العشرين، وإن كانت ترى أضواءه من بعد، وقالت بابتسامة: "سوري مسيو، هيدي حفلة خاصة"، فبادلتها التبسم: "حفلة زواج؟"، فقالت: "لا، حفلة لأهالي (ضيعة وادي الست) وعم نجمع تبرعات من أهالي الضيعة لنزيّن ضيعتنا"! فتراقص قلبي طرباً وقلت باندفاع الأطفال: "أنا من عشاق ضيعة وادي الست، وأعرفها وأعرف بعض تفاصيلها، وأعرف أنها في (الشوف)، وأنها قريبة من نبع الصفاء، ووو، وأريد أن أتبرع للضيعة وأحضر الحفل"، فتبسمت: "طيب، التذكرة بخمسة وعشرين دولاراً، وشايف اللي قاعد هونيك؟، هيدا بيي اتفضل على طاولته"، ورحت لـ"بيّها" وشرحت له الموضوع فشرح لي حكاية الحفلة: "شبيبة الضيعة"، وهم مجموعة من الصبايا والشباب لا يتجاوز أكبرهم الخامسة والعشرين، أرادوا تطوير ضيعتهم عن طريق التبرعات، فحجزوا المطعم هذا، واتفقوا مع مطربين، وعرضوا التذاكر علينا نحن أهالي الضيعة، فهجمنا على التذاكر هجوم الجائع على الوليمة، وكما تشاهد، ليس هناك كرسي شاغر، لكننا سنتدبر أمرك على أي حال.

وانشغلنا بالتصفيق والغناء، و"في فجأة" قطع المطرب غناءه وراح يرحب بصعود "أبونا" على مسرح الرقص ليراقص الجميع بردائه الأسود. ومَن هو أبونا هذا؟ إنه "خوري الكنيسة" وخطيبها، الله يغربله! وعلى طاولتنا كان تصفيق الراهبة، الله يغربلها، لا يتوقف تشجيعاً للصبايا اللواتي لم يجلسن على كراسيهن لاندماجهن في الرقص... فصفقت أنا أيضاً، ورقصت، الله يغربلني، وتذكرت شباب ضيعة الصباحية وضيعة جابر العلي وآثارهم على جدران المدارس ومحولات الكهرباء.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top