إلا الحج يا إيران!!

نشر في 09-11-2009
آخر تحديث 09-11-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري حتى «الحج» الشعيرة الإيمانية الروحانية الخالصة، تريد الحكومة الإيرانية تسييسه، فتصريحات المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي وتصريحات الرئيس الإيراني أحمدي نجاد تريد استغلال موسم الحج وتحويله إلى مناسبة سياسية لإعلان «البراءة من المشركين»، وهي تطالب السلطات السعودية بالسماح لحجاجها بالتظاهر وترديد الهتافات ضد من أسمتهم بـ«أعداء الأمة» ويهدد نجاد الحكومة السعودية بأن طهران ستتخذ إجراءات مناسبة إذا لم تستجب السعودية لمطالبها!

وقد ردت السعودية بحزم ووضوح عبر مجلس الوزراء السعودي الذي أصدر بياناً قال فيه: إن السعودية لن تسمح لأي جهة بتعكير صفو الحج والعبث بأمن الحجيج ومحاولة شق الصف الإسلامي، كما ناشد البيان الحجاج بالإفادة من وجودهم في الأراضي المقدسة في التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، والالتزام بمقاصد الحج الشرعية، امتثالاً لقوله تعالى: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» كما رد الشيخ عبدالعزيز آل شيخ- مفتي السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء- على المطالب الإيرانية باستغلال موسم الحج لإعلان البراءة من المشركين بقوله: «إن دعوى البراءة «كاذبة» و«باطلة» ولا أصل لها، وإن هؤلاء الذين يريدون استخدام الحج لأغراضهم الشخصية وأهوائهم ونشر باطلهم ودعاياتهم المضللة، ليسوا على هدى».

 كما أكد علماء الأزهر أن الحج «عبادة» وتسييسه مرفوض شرعاً، وقالوا: إن رفع أي شعارات سياسية بهدف تحقيق مآرب لا علاقة لها بمقاصد الحج الشرعية، يعد فتنة كبرى تمزق شمل الأمة، وأكدوا حق السلطات السعودية في ضبط الأمن رداً على تهديدات الحكومة الإيرانية، وبلغ الغلو بإمام الجمعة في مدينة مشهد الإيرانية أن هاجم السعودية، وقال: «إن مدينة مشهد يجب أن تكون (قبلة المسلمين وليس السعودية) لأن بلاد الحجاز أصبحت ضحية للوهابية، والعراق محتل من الكفرة والمغتصبين، فإن مدينة مشهد المقدسة وحدها يمكن أن تكون قبلة للمسلمين، إذ يزورها سنوياً 800 ألف زائر من الخارج و«عشرون» مليون زائر من داخل إيران على مدار العام».

ودخل «مجمع الفقه الإسلامي الدولي» بجدة على الخط، وناشد «الحجاج» الابتعاد عن كل ما يثير الخلافات وترديد الشعارات والإساءة للحرم الآمن والإزعاج لضيوف الرحمن الذين قطعوا المسافات، ليذكروا اسم الله في أيام معلومات أو التشويش عليهم بدافع الأهواء الضيقة والمصالح المذمومة».

ولكن لماذا تسعى إيران إلى تسييس الحج؟! «التسييس» الذي طال كل شيء في إيران، فلم يبق شيء فيها إلا وظف لخدمة أهداف الثورة الإسلامية، ولم يسلم شيء فيها في عهد الجمهورية الإسلامية من أوحال السياسة: المدارس والمعاهد والجامعات والمراكز البحثية وكل المؤسسات الثقافية والإعلامية والدينية، ووصل الأمر إلى عزم وزارة التعليم تعيين رجل دين بكل مدرسة، حتى المساجد تحولت اليوم إلى منابر سياسية تستغل من خطباء المساجد لمهاجمة المعارضة الإيرانية والدول التي لا تدور في فلك السياسة الإيرانية.

تريد إيران تسييس موسم الحج لخدمة أهدافها والتدخل في شأنه مثلما تتدخل في شؤون العراق ولبنان وفلسطين واليمن ودول أخرى، «التسييس» هذه اللعبة المفضلة التي تجيدها إيران وكل الجماعات التي تدور في فلكها، خصوصا جماعات الإسلام السياسي الذين يتبنون مشاريع انفصالية، ويسعون إلى التمرد والانشقاق على الدولة الوطنية والحكومة الشرعية تحت شعارات «المقاومة» أو «تطبيق الشريعة» وتجدهم في العراق ولبنان وفلسطين واليمن والصومال وباكستان وأفغانستان.

لقد سيسوا كل شيء في حياة العرب والمسلمين، المساجد بيوت الله، حولوها إلى ساحات صراعات سياسية ومنابر حزبية متناصرة، انظر إلى حرب المساجد في غزة بين «الجهاد» و«حماس» وبالأمس كانت بين «فتح» و«حماس»، فهؤلاء جميعاً لا يتورعون عن تحويل كل ما هو غالٍ ونفيس وعظيم في نفوس المسلمين إلى ميدان للصراعات والمصالحة الضيقة، لوثوا كل شيء بأوحال السياسة، لكن «الحج» بقي حرماً آمنا بعيداً عن لعبة السياسة والحزبية والشعارات المضللة، بقي الحج بمنأى عن الصراعات السياسة التي تسود حياة المسلمين، بقي «الحج» المكان الآمن الذي يلجأ إليه المسلم ليخلو إلى نفسه ويناجي ربه ويراجع حياته ويقلع عن آثامه ويطهر نفسه، بقي «الحج» استثناء إلهياً مدهشاً في حياة المسلمين.

استعصى «الحج» على محاولات التسييس كلها سواء من قبل إيران أو من قبل جماعات الإسلام السياسي التي أرادت تحويل موسم الحج إلى ساحة للمزايدات السياسية، وبقي الحج شعيرة روحية خالصة يأوى إليه المسلم لينعم بجو روحاني خالص، ليتطهر ويزداد إيماناً ويقيناً وسكينة وأملاً في مستقبل أفضل، ومنذ ظهور الثورة الإسلامية في إيران وبزوغ نجم جماعات الإسلام السياسي أصبحت حياة المسلمين موبوءة بالصراعات السياسية، وأصبحت تلك الصراعات تطارد المسلم وتنغص عليه حياته أينما حل أو ارتحل، في البيت والمسجد والمدرسة والجماعة وميادين العمل والفضائيات، بل حتى لو هاجر ورحل إلى ديار الغرب، فلا فكاك.

لكن الحج ظل هو الأمن والأمان والسكينة والاطمنان بمنأى عن الجدل والفرقة والاختلاف والظلم والأذى، بقي «الحج» قيماً غالية ومعاني نبيلة وعبادة خالصة ورمزاً عظيماً لعلاقة المخلوق بالخالق، بقي الحج أملاً وإلهاماً، وكان من حظ المسلمين أن الله سبحانه وتعالى سخر لخدمة بيته الحرام والقيام على شؤونه «دولة» لا تؤمن بمنهج الإسلام السياسي.

تخيلوا- مجرد تخّيل- لوكان «الحج» في ظل دولة مثل إيران أو إحدى جماعات الإسلام السياسي ماذا كان وضع الحج؟! وماذا كانت حال المسلمين؟! هل كان الحج متاحاً لجميع المسلمين بغض النظر إلى انتماءاتهم السياسية والمذهبية؟! وهل كان الحج مستطاعاً لمن تسميهم جماعات الإسلام السياسي بالعلمانيين والشيوعيين والمغتربين؟! وهل كان الحج باقياً على نقائه وصفائه الروحي؟!

أتصور أن موسم الحج كان سينقلب إلى موسم لترويج الدعايات السياسية والشعارات الفارغة، ويتحول إلى «أوكزيون» للمزايدات الحزبية والمصالح السياسية والأهواء والأنانيات الضيقة، ويصبح في ظل الجماعات السياسية الدينية موسماً لتصفية الحسابات وإثارة القلاقل والفتن والجدل السياسي العقيم.

تريد إيران اليوم التصعيد وهي تهدد باتخاذ إجراءات معينة إذا لم تستجب السعودية لمطالبها، لكن على إيران أن تفكر ألف مرة قبل أن تقدم على أي خطوة، لأن السعودية لن تتساهل- مطلقاً- في أي أمر يتعلق في بيت الله الحرام، ولن تسمح- أبداً- بأي أمر يعكر صفو الحجيج، ذلك واجبها، وتلك مسؤوليتها، ولا نقاش في ذلك.

تريد إيران تصدير مشاكلها الداخلية مع المعارضة السياسية إلى الخارج، لكن عليها أن تبحث عن مكان آخر غير الحج الذي سيبقى حرماً آمنا بعيداً عن الأهواء السياسية، وعليها أن تراجع نفسها وتتأنى في اتخاذ أي قرار خاطئ قد يلحق الضرر بحجاجها ويستفز مشاعر المسلمين في كل مكان.

المشاعر المقدسة ليست مسرحاً للشعارات وتصفية الخصومات، والحكومة الإيرانية اليوم تعيش معاناة عسيرة في ظل أزمات داخلية ضخمة إضافة إلى مآزق خارجية كبيرة، ولم تستطع بعد 30 سنة تحقيق الحلم الموعود للشعب، فتكفيها أزماتها الداخلية والخارجية عن افتعال أزمة أخرى مع السعودية عبر سياسة الهروب إلى الأمام.

*كاتب قطري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top