هموم إعلامية

نشر في 04-07-2010 | 00:01
آخر تحديث 04-07-2010 | 00:01
إن ما انتهى إليه "الملتقى الثاني لقادة الإعلام العربي - دون أدنى قدر من الخلاف - لم يكن سوى ضرورة عقد منتديات أخرى تبحث في تلك الهموم وتنظر في سبل مواجهتها، بشكل يحفظ للإعلام العربي مهنيته وأخلاقيته، دون أن ينال من حريته وقدرته على تنظيم ذاته وتطويرها.
 ياسر عبد العزيز كانت فكرة مميزة حقاً، أن تتيح مكتبة الإسكندرية لأكثر من سبعين من قيادات العمل الإعلامي في 17 دولة عربية الفرصة لمناقشة عدد من الهموم والمشكلات وجوانب القصور، التي تهيمن على الواقع الإعلامي العربي، وتحد كثيراً من قدرته على الانطلاق، وتضاعف الضغوط التي تستهدفه، وتزيد الممارسات المسيئة التي تصدر عنه أحياناً، في الوقت ذاته.

فعلى مدى يومي الخميس والجمعة الماضيين، استضافت المكتبة "الملتقى الثاني لقادة الإعلام العربي"، الذي نظمته بالتنسيق مع "هيئة الملتقى الإعلامي العربي"، حيث تمت مناقشة ثلاثة محاور مهمة؛ أولها يتصل بطبيعة الدور الذي يمارسه الإعلام تجاه العلاقات العربية البينية، وثانيها يختص باقتصادات الإعلام، فيما ينصب ثالثها على علاقة الإعلام بالسلطة في المجتمع العربي.

ورغم أن المدعوين لذلك المحفل المهم يمثلون معظم الدول العربية الفاعلة في الفضاء الإعلامي العربي، وبعضهم يشغل مناصب رسمية رفيعة وينهض بأدوار مهمة في صناعة القرار في بلاده، فيما يتولى آخرون رئاسة مؤسسات إعلامية كبيرة أو يقودون اتحادات مهنية ونقابية فاعلة، ورغم توافر فرص واسعة لخلافات سياسية وإيديولوجية ومهنية بين عدد ليس قليل من الحاضرين، فإن أبرز ما حصل خلال هذا الملتقى كان التوافق النادر على ضرورة الوصول إلى خطوط عريضة، يمكن من خلالها إصلاح أوضاع بات واضحاً أنها تحتاج تدخلاً عاجلاً لتحجيم آثارها.

ومن أبرز الجوانب التي شهدت توافقاً عاماً، ما حصل خلال جلسة "الإعلام والعلاقات العربية"، حيث رأى أغلب الحاضرين أن وسائل إعلام ما في أكثر من دولة عربية تورطت في ممارسات مشينة ومبتذلة على خلفية خلافات سياسية بين بعض الحكومات؛ الأمر الذي حط من مهنيتها، وأساء إلى دولها، ونال من كرامة شعوب عربية أخرى، وأسهم في تخريب العلاقات العربية البينية، أو قلص فرص تطورها على أقل تقدير.

ولذلك، فلم يكن مستغرباً الاتفاق على ضرورة تبني وسائل الإعلام العربية المعايير المهنية والأخلاقية المتعارف عليها في إطار تصديها لتغطية موضوعات العلاقات الخارجية، خصوصاً تلك التي تتصل بالعلاقات البينية العربية، وعدم التورط والانسياق خلف مواقف سياسية تتبناها بعض الدول أو الجماعات، ضمن أطر سياسية تخضع للتبدل عادة، وفق الظروف ومقتضيات المصالح المتغيرة بطبيعتها.

أما جلسة "اقتصاديات الإعلام"، فقد كان أبرز ما فيها محاولة الإجابة عن التساؤل بخصوص كيفية إبقاء المُلاك وسائل الإعلام التابعة لهم ضمن الخط التحريري الذي يحبذونه، دون أن يكون ذلك افتئاتاً من الملكية على الإدارة، وتغولاً نابعاً من نمط التمويل على معيارية أداء المهنيين المتخصصين، وحرفاً للوسائل نحو تحقيق أهداف تتصل بالرؤية السياسية أو المالية للمالك من دون أن تتوافق مع الاعتبارات والأساليب المهنية.

وقد رأى كاتب تلك السطور، خلال مداخلته في الملتقى، أن تجريد المالك من صلاحيات تضمن له إبقاء الوسيلة التي يمتلكها أو يمولها ضمن الإطار التحريري الذي يحبذه، يمثل إشكالاً حقيقياً، قد يحد من ذرائع التملك؛ الأمر الذي يؤثر في قدرة الصناعة الإعلامية على تحقيق الازدهار وربما البقاء أيضاً.

وفي الوقت ذاته، فإن تدخل المالك، سواء كان دولة أو حزباً أو شركة أو شخصاً فرداً، في تفصيلات العمل الإعلامي، واستخدام سلطاته كمصدر تمويل في صياغة الأداء وتأطيره، سيضر أيضاً بالصناعة، ويحولها إلى أدوات ارتكاز سياسي وأبواق دعاية أو مشروعات ربحية لا تراعي أي معايير أو أسس.

ويبقى حسم تلك المشكلة مرهوناً فقط بقدرة المالك على تحويل الوسيلة إلى العمل وفق النمط المؤسسي؛ الذي يلزمه بإعلان رؤيته، وعناصر مهمته، والقيم التي يتبناها، وخطته الاستراتيجية، والأدلة المهنية التي يعتمدها، وسياسات التوظيف والتدريب ومراقبة الجودة التي ينتهجها للعاملين معه في الوسيلة، وللوسط الإعلامي، وللمجال العام، على أن يكون ذلك الإعلان بمنزلة التزام منه بكل ما ورد فيه.

فإذا استطاع ملاك الوسائل الإعلامية في العالم العربي الوصول بنمط أداء وسائلهم إلى الصيغة المؤسسية عبر استكمال أغراض بنائها المتكاملة، فإنهم في هذه الحال سيكونون قادرين على إبقاء تلك الوسائل ضمن الخط التحريري الذي يرتضونه لها، وهو خط سبق الإعلان عنه للمجال العام، كما سيكون باستطاعتهم السيطرة على مدخلات الصناعة من خلال آليات التوظيف والتدريب والأدلة المهنية العامة والنوعية، والتحكم في المخرجات عبر آليات المتابعة والمحاسبة وتقييم الجودة ذات الطابع المؤسسي.

وعلى الرغم من أن الجلسة الثالثة عقدت تحت عنوان "الإعلام والسلطة"، فقد أخذتها المقاربات والمداخلات المختلفة نحو عنوان آخر تحدث عن "سلطة الإعلام في مواجهة غيرها من السلطات"، باعتبار أن الإعلام سلطة رمزية ذات دلالة اعتبارية، يزيد تأثيرها في الآونة الأخيرة باطراد، فيما تتداخل وتشتبك مع عدد من السلطات الأخرى، بعضها مقنن مثل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبعضها الآخر غير مقنن مثل سلطة الجمهور والقوى الاجتماعية والدينية والحركات والميليشيات في بعض الدول.

وظهر أن الحاضرين سعوا إلى التخلص من "جلد الذات" من جهة ومن "لعب دور الضحية" من جهة أخرى، فأقروا بأدوار إعلامية مفتئتة أحياناً على بعض السلطات ومتجاوزة للمعايير، كما أكدوا أن الإعلام العربي مازال هدفاً لممارسات سلطوية قمعية تنال من حريته وتحد من انطلاقه.

أما ما انتهى إليه الملتقى دون أدنى قدر من الخلاف، فلم يكن سوى ضرورة عقد منتديات أخرى تبحث في تلك الهموم وتنظر في سبل مواجهتها، بشكل يحفظ للإعلام العربي مهنيته وأخلاقيته، دون أن ينال من حريته وقدرته على تنظيم ذاته وتطويرها.

والواقع أن النقاش الذي احتدم والجدل الذي ساد، خلال الملتقى، بحاجة إلى المزيد من البحث والدرس، وهو ما يمكن أن يكون موضوعاً لمقال آخر، خصوصاً أن الإعلام بات أكثر أهمية ونفاذاً في حياتنا من أي وقت مضى.

* كاتب مصري

back to top