كان ثلاثة إخوة يسيحون في أرض الله طلبا للحكمة، قد ألقوا عصا الترحال، ذات ظهيرة، في بلدة هادئة، وجدوا في أحد طرقاتها المقفرة من المارة، شيخاً طاعناً في الذهول، يجلس مستندا إلى حائط بيت، تحت لهب الشمس الحامية، وكأنه يستظل منها بها!

Ad

كانت للشيخ لحية خضراء، وعليه ثوب أخضر، وتحت إبطه كتاب أخضر.

سلم الإخوة عليه، فلم يرد عليهم السلام، بل وضع إصبعه عمودياً على شفتيه، طالباً منهم بالإشارة أن يلتزموا الصمت، فألقوا عصا الترحال أمامه، وتحلقوا من حوله صامتين، وفي يقينهم أنهم قد بلغوا الغاية.

تناول الشيخ «عصا ترحالهم» وهزها في وجوههم، ثم انهال عليهم ضرباً، فتباعدوا عنه قليلاً، لكنه تبسم، وركز العصا أمامه، وراح ينبش الأرض بأناة، ويحثو التراب عليهم، وهم في أثناء ذلك يتأملونه صامتين خاشعين، وما مضت ساعة حتى كان الشيخ قد صنع حفرة، ما لبث أن زحف نحوها حتى غطاها بمؤخرته، ونشر حولها ثوبه، وارتعد صائحاً: «الطبيعة الطبيعة.. الأرض الأرض.. الفضاء الفضاء».. وسكت فجأة، ثم ابتسم، ثم عبس، ثم بكى، ثم استغرق في الذهول من جديد.

قام الإخوة الثلاثة ينفضون التراب عن ثيابهم، وقبلوا يد الشيخ تباعا، ثم التقطوا عصا ترحالهم وانصرفوا.

وفيما كانوا سائرين بحثاً عن خان للمسافرين يستظلون به من القائلة، قال أكبرهم:

ـ الشيخ أنبأنا بأن من حفر حفرة لأخيه وقع فيها!
وقال الأخ الأوسط:

ـ بل أنبأنا بأن الموت مصير كل حي.. ألم ترياه قد تبسم ثم بكى ثم استقر فوق الحفرة؟!

قال الأخ الأصغر:

ـ بل هو قد لخص لنا ناموس الطبيعة، فقال إن الماء سر الحياة المودع في الأرض كما هو مودع في السماء، ألم ترياه، ونحن في موسم انقطاع قطر السماء، قد حفر لنا بئرا في الأرض؟!

سار الإخوة طول الظهر يترنحون تحت الشمس، حتى لاح لهم خان فدخلوه، وبعد أن استراحوا وطعموا وارتووا، قصوا على صاحب الخان حكاية الشيخ، وأبدوا تعجبهم من ترك حكيم مثله يقتعد الطريق في عراء الظهيرة دون ظلة، ثم سألوه عن اسم الشيخ بغية التبرك بذكره والدعاء له.

سألهم صاحب الخان:

ـ ماذا رأيتم الشيخ يفعل بعد أن قعد فوق الحفرة؟

قال الأخ الأكبر:

ـ رأينا الحكمة مثلثة!

ثم روى له ما استنتجوا من حكمته.

قال صاحب الخان:

ـ إنما حكمته واحدة لا تتجزأ ولا تنقسم ولا تتعدد، بل تتكرر.

ثم ابتسم قائلا:

ـ لقد اعتاد الشيخ أن يحفر حفرة كلما أراد أن يتبول. إنه «عميران الأخضر» مجنون البلدة!

هتف أحد الإخوة: سبحان الله... ها هي ذي حكمة الشيخ قد تربعت بعد تثليث!

فإن لم ينزل الماء من السماء، وإن لم يتدفق من الأرض... فليس أمام المرء إلا اللجوء إلى «النهر الاصطناعي»!

عقد العجب لسان صاحب الخان، لكنه استطاع أن يقول بعد حين:

ـ لماذا لا تأخذون «عميران» معكم؟ مثلكم، والله، أولى بمثله!

* شاعر عراقي