مثل خلايا المناعة في الجسد البشري، تنفرط عن بعض في المشاغل الفردية لحظة الأمان، وما أن تستشعر أذى طارئاً يُلم بالجسد حتى تلتحم ببعض من أجل العمل الدفاعي المشترك. فرقة «استوديو الممثل» في لندن مثل هذه الخلايا، قوامها المخرجة والممثلة روناك شوقي، والممثلون عناصر يمكن أن يكونوا في أي مكان، داخل لندن أو خارجها. تفرقهم ظروف المعيشة التي لا يجمعها جامع. ويوحدهم قدَران لا فكاك منهما: قدرُ المنفى، وقدر حب المسرح.

Ad

روناك شوقي، ابنة الممثل العراقي الكبير خليل شوقي، نشأت وكبرت داخل بهو المسرح، في المستقر العراقي، أو في أرض الشتات التي اتسعت منذ نهاية السبعينيات. لندن، المستقر الأخير، ظلت الأكثر رحابةً وقسوة في آن. لا لشيء إلا لأنها مدينة المسرح دون منازع. فهذه الميزة عادة ما تشكل تحدياً لعاشق المسرح، ولكن ليس لعاشق عراقي منفي. فاللغة غير اللغة، والهموم غير الهموم، وفقر الإمكانات يكاد يبلغ الصفر. ثم إن الأصداء التي تبلغه من وطنه لا تعدو كونها حرائق، ودخاناً، ورماداً. ولكن روناك لم تبطل المحاولة. ومثل خلايا المناعة، كما قلت، ما ان تضيق بالصمت وتحاول، حتى تتجمع ثانية على العمل المشترك: نساء ورجال يتخففون في لحظة من أردية وظائفهم المعيشية، من أجل أردية تبعث بهم إلى أفق الدراما الأرحب، والأكثف، والأغنى من حياة المنفى الأرضي.

في المسرحية المقدمة أخيراً رأيت: رسول الصغير (ممثل، يقيم في لندن)، هند الرماح (ابنة الممثلة الكبيرة ناهدة الرماح، تقيم في لندن)، علي فوزي (ممثل، يقيم في لندن)، سلوى الجراح (إذاعية معروفة، تقيم في لندن)، مي شوقي (ممثلة، ابنة خليل شوقي، تقيم في هولندا)، كاو رسول (ممثل، يقيم في لندن)، فارس شوقي (ابن خليل شوقي)، تمارا ناصر (صبية، ابنة الشاعر عواد ناصر). الجميع عراقيون، وفي كل واحد منهم رغبة في التعبير عن دوره بحرص، ما دام دوره حزيناً. وفرقة «استوديو الممثل»، التي تضمهم في هذا العرض، قد تتسع لغيرهم في عمل آخر. فالإسهام مجاني، والحماسة فائضة، والموهبة متحرقة. ولكل ممثل أن يُسهم، إلى جانب دوره، بإدارة مهمة من مهمات المسرح الأخرى: إدارة مسرح، تنفيذ ديكور، إنارة، التنفيذ الموسيقي... الخ. ولقد تم كل هذا، تحت سطوة فقر ذات اليد، بأروع شكل.

المسرحية الجديدة «خارج الزمن» مُعدة من قبل الشاعر عواد ناصر وروناك شوقي، عن رواية «حفلة التيس» لماريو فارغاس يوسا (مترجمة إلى العربية). وفي «حفلة التيس» ما يُشبه حفلات التيس العراقي الذي غبرت: حروب، وخراب مدن وبلاد، وقتل، واغتصاب، وضحايا، ومرتزقة. وكان الاختيار موفقاً بالتأكيد: تعود زهرة من منفاها إلى خراب بيتها، ومدينتها، لتستعيد عبر لقائها بأبيها المُقعد البائس، والذي كان وزيراً منعماً في ظل الدكتاتور، سنوات الكابوس. الدراما تنمو مع رغبة البطلة في فضح دور أبيها المدان بالتزلف من أجل المصلحة الخاصة، وبهربها إلى المنفى المميت. وذروة تلك الدراما تتمثل في الكشف عن سر هربها، وهو عملية الاغتصاب التي مارسها الرئيس برضا الأب. التنقل الذي يطرأ على أدوار النساء، وعلى الزمان والمكان، وعلى المشهد بين خشبة المسرح وشاشة السينما، موفقٌ تماماً. والأكثر توفيقاً انتخاب أغنية في المفتتح، من أوبرا بوتشيني «مدام بُترفلاي» المعبرة عن أسى بطلة الأوبرا المخدوعة بحب واهم، والمقاطع التأملية من سويت باخ لآلة التشلو. الساعتان اللتان صرفتهما داخل مسرح Cockpit، في شمال لندن كانت لا تختلف كثيراً عن الساعات التي أصرفها في مسارح الفرق الإنكليزية المحلية. مع كل فقر الإمكانات المادية، وحصار الوقت الذي يُسرق من الموهبة الفتية. ولكن الأكثر إثارة للأسى هو أن فرقة «ستوديو الممثل»، ولها مثيلات عراقية وعربية في لندن وعموم الغرب، مهجورة ليس في منفاها وحده، بل في الاستغناء الدؤوب عنها من قبل مؤسسات الثقافة في العالم العربي، ولا أريد أن أقول في الملحقات الثقافية المهمومة بشراء الذمم في السفارات العربية. فالجميع يبخلون في دعوتهم لعرض نشاطهم على الجمهور العربي، في بلادهم العربية!