الخطباء والوعاظ والدعاة وكل العلماء، خصوصا الذين يعتلون منابر بيوت الله للوعظ والإرشاد وتوعية الناس بقيم الدين وتعاليمه، هم أولى الناس وأجدرهم بأن يسارعوا إلى تقديم اعتذارهم الجميل إذا أساؤوا إلى الآخرين في خطبهم وأحاديثهم الدينية، فهم القدوة والمربون في نظر القاعدة الشعبية العريضة، فالاعتذار فضيلة أخلاقية سامية، وقيمة عليا من قيم ديننا الذي يحثنا على المبادرة لتصحيح أخطائنا في حق الآخرين بالاعتذار ثم الإحسان والتعويض عن الإساءة.
عشرات النصوص الدينية تخاطب وجدان المسلم وتثير الوازع الأخلاقي في نفسه للاعتراف بالخطأ سواء بحق الله أو بحق الآخرين، ولعل «التوبة» ومشتقاتها من أكثر الألفاظ دوراناً في القرآن، وما التوبة إلا التعبير الأسمى عن «فضيلة الاعتذار»، وهناك عشرات النصوص الدينية في تمجيد «النفس اللوامة» التي تقوم بعملية «النقد الذاتي» وتراجع نفسها باستمرار، وتنشغل بتصحيح عيوبها أكثر من عيوب الآخرين، وعشرات النصوص الدينية في إحسان الظن بالمسلم والصفح والإحسان ومقابلة الحسنة بالإساءة حتى تمحوها، فلا أحد معصوما من الخطأ، ولكن- أيضاً- لا أحد فوق الاعتذار.الاعتذار ليس ضعفاً، بل دليل قوة وثقة بالنفس، وهو عنوان للرقي الأخلاقي والبلسم الشافي للجراح، وله أعظم الأثر في تذويب العداوات وإزالة المرارات وتأليف القلوب، ومواساة المشاعر، فهو مطهر صحي للذات ومصحح للسلوك، وله فعل السحر في النفوس وفي كسب القلوب ومداواة الجروح وإزالة الاحتقانات، وما أجمل أن تسود ثقافة الاعتذار مجتمعاتنا العربية والإسلامية!! عدم الاعتذار دليل قساوة القلب وجمود المشاعر وتضخيم الذات واستعلائها على الآخرين، فمن يكابر ولا يعتذر عن أخطائه، ومن يزعم أنه يملك الحقيقة المطلقة، والذين لا يراجعون أنفسهم ولا يعترفون بأخطائهم تجاه الآخرين هم نتاج ثقافة التعصب الديني والإيديولوجي التي ترى الآخرين من منظار الاحتقار والدونية، والذين لا يعتذرون، أصحاب عقول إقصائية التي تعد نوعا من الفكر والممارسة التي لا ترى إلا نفسها ولا تعيش إلا بنفسها، كما يقول «تركي الحمد» العقل الإقصائي هو الذي يقف وراء أكثر الكوارث في التاريخ البشري، العقل الإقصائي هو الذي ينصب صاحبه قاضياً يحكم على معتقدات الآخرين، ومن لا يعتذر لا يعترف بأخطائه، ومن لا يعترف بأخطائه لا يتعلم منها ولا يطور نفسه وحياته. السؤال المطروح: إذا كانت لفضيلة الاعتذار هذه المكانة العالية في ديننا وفي تراثنا الثقافي وفي الأدبيات العربية فلماذا لا نراها مجسدة في سلوكياتنا وتعاملاتنا وعلاقاتنا؟! ولماذا لا نفعّل فضيلة الاعتذار في أنماط التنشئة الاجتماعية ومناهج التعليم والتربية؟! «الاعتذار» وبقية القيم الإنسانية العليا مازالت معلقة في الفضاء المجتمعي، ولا نجد لها تطبيقاً واسعاً في سلوك حي وممارسة فاعلة بين أفراد المجتمع، فماذا ترى إذا مددت بناظريك عبر الساحة العريضة؟! ما أكثر الإساءات والمرارات والتجاوزات وما أقل الاعتذارات! شعوب ودول وأحزاب ومنابر ورموز دينية وسياسية وثقافية تسيء إلى بعضها، ثم تكابر وتناور وتراوغ ولا تعترف ولا تعتذر.هناك شعوب ودول اعتذرت عن تجاوزات تاريخية، فاليابان اعتذرت لشعوب جنوب شرق آسيا والصين عن الفترة الاستعمارية، وأميركا اعتذرت لإفريقيا عن تجارة العبيد، وبابا الفتيكان اعتذر عن الحروب الصليبية، وفرنسا اعتذرت عن شحن يهودها إلى الحرق، وشعوب كثيرة اعتذرت لبعضها ولم أسمع دولة عربية اعتذرت لأخرى إلا الاعتذار اليتيم الذي قدمه «أبومازن» لدولة الكويت عندما زارها، وقال «نعتذر عما بدر منا ونقول لأهلنا في الخليج نحن بحاجة ماسة لدعمكم ومساندتكم»، فكان الرد الجميل من أمير الكويت «يا سيدي لماذا نتحدث عن الاعتذار الموضوع انتهى، وأنت بين إخوانك».لا يقدم على الاعتذار إلا رجال عندهم من الثقة بأنفسهم ومن الشجاعة في تحمل مسؤولياتهم ما يجعلهم يصححون مواقفهم، ولكن هذه حالة فريدة في الحياة السياسية العربية، فصدام شن عدواناً على دولتين جارتين، وتسبب في قتل الملايين وذهب ولم يعتذر، ومازال أنصاره يبررون خطاياه! الأنظمة الثورية المتعاقبة ألحقت الهزائم والكوارث بأوطانها ولم تعتذر لشعوبها، وآلاف المعتقلين السياسيين في السجون ماتوا من التعذيب وذهبوا من غير أي اعتذار أو تعويض، وحتى على مستوى الجماعات السياسية لم نجد إلا اعتذاراً وحيداً قامت به الجماعة الإسلامية في مصر، فـ«القوميون» تكلموا بخصومهم ولم يعتذروا ولم يقوموا بأي مراجعة نقدية عامة لطروحاتهم، و«الإخوان» لم يعتذروا عن تاريخ طويل من العنف، وقال كبيرهم: «الإخوان لا يعتذرون» جميع التيارات السياسية ارتكبت مظالم كبيرة ضد بعضها ولم تعتذر! وحتى على المستوى الثقافي وجدنا اتحاد كتاب العرب ونقابات المحامين والرموز الثقافية الكبيرة التي ساندت «صدام» كل هؤلاء لم يعتذروا للشعب العراقي، وعلى المستوى الديني: المنابر الدينية التي كفّرت الكتّاب والمفكرين والفنانين، واستحلت دماءهم لم تعتذر! وخطباء «حيّ على الجهاد» الذين اختطفوا منابر بيوت الله، وحولوها إلى منابر سياسية محرضة ضد الكتّاب والسياسيين والفنانين، ومفرقة للمسلمين ومؤججة للكراهية والطائفية، وللتغرير بالشباب ودفعهم إلى الهلاك، لم يعتذروا ولا رقيب ولا حسيب عليهم، ومع أن «قمة مكة» جرمت التكفير والفتاوى التحريضية إلا أنه لا أحد يملك مقاضاتهم أو المطالبة بتنحيتهم عن منابر التوجيه، وحتى إساءة بعض العلماء لبعضهم، هل رأيت عالماً يعتذر لعالم؟! وعلى مستوى الحركات المسلحة «حماس» وبالرغم من انقلابها الدموي لم تعتذر للشعب الفلسطيني و«حزب الله» لم يعتذر للشعب اللبناني رغم المغامرة الكارثية. «الأقليات» الدينية والعرقية في العالم العربي لها اعتذارات مستحقة ونحن نطالب الآخرين بالاعتذار ولا نبادر بالاعتذار، لو كان الاعتذار ثقافة سائدة في حياة العرب لأمكن وضع حد لكثير من القضايا العالقة، ولزالت مرارات كثيرة في النفوس، فما أجمل أن نعتذر لبعضنا! وما أجمل أن تسود ثقافة الاعتذار حياتنا ومجتمعاتنا!! فهي كلمات بسيطة لكن لها أثراً سحرياً يزيل المرارات، فالاعتذار قيم وثقافة وفضائل تتأسس عبر التنشئة الأولى، وتترسخ بالممارسة، وتصبح نسقاً عاماً يحكم العلاقات الاجتماعية، وإننا بحاجة لرد الاعتبار لثقافة الاعتذار. *كاتب قطري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
رد الاعتبار إلى ثقافة الاعتذار
25-01-2010