عودة محمود درويش
يعود الشاعر محمود درويش إلى الواجهة مجدداً، يعود شاعر الغياب، في ذكرى مرور عام على رحيله (التاسع من أغسطس 2008) لقد مر العام سريعاً، مرّ دون أن ننتبه إليه كأن درويش كان بيننا، كأنه لم يرحل جسدياً، كان حضوره الساطع، الأليف، واضحاً، وكان استذكاره يوحي بأنه فعلاً لم يكن يريد لقصيدته أن تنتهي، فالنقاش والجدل أمورٌ ظلت حاضرة بقوة، خصوصاً بعد طبع ديوانه الأخير، بعد رحيله، وفي ظني أن درويش سيظل حاضراً في المستقبل ليس بسبب قوة وجمال شعره فحسب، بل لأن هناك قصائد وكتابات كثيرة تكتشف الآن لم تظهر في أي كتاب من كتبه، كتابات وقصائد موزعة ومكتوبة على مراحل زمنية مختلفة في أكثر من صحيفة أو مجلة. يعود إذن صاحب «كزهر اللوز أو أبعد» بقوة شغف البدايات، ليؤكد أنه هنا، هنا باقٍ ينظر من نافذةٍ أو يلقي التحية من بعيد.
أن يموت شاعر بقامة محمود درويش فهذا يعني أن يتزحزح العالم قليلا أو كثيرا، على الأقل بالنسبة الى الشعراء وأصدقاء الكلمة. لقد سبق لدرويش أن قال: إنه هزم الموت مرتين، وكان قد عبَّر عن انبثاق السؤال المصيري ذاك في جداريته الشهيرة، والجدارية عمل امتزجت فيه رحلة الألم والمنفى بالأسئلة الجوهرية الكبرى، البياض الناصع بالشفافية الحلمية، سؤال الحرية بالخلاص الوجودي. إنه عمل يصعد ما هو شخصي وفردي إلى حالة تنضاف الى ذاكرة الجماعة. وإذا كان درويش قد استطاع أن يراوغ ويخدع الموت ذات زمن، فإن هذا الأخير كان يتتبع خطى الشاعر بإصرار عنيد. لقد استراح الشاعر ليدفن في أرضه وبين شعبه، استراح الشاعر من المرض والألم وترك الحصان وحيدا، غير أن الحصان على الأرجح سيرفع الشاعر مجددا إلى ملكوت آخر. ليس في نية هذه الكلمة القصيرة في مناسبة ذكرى مرور عام على رحيله، أن تستعيد الفضاء الشعري المتعدد لعالم محمود درويش، إنها بالأحرى كلمة تصدر عن وجدان قلق، كلمة تريد أن تقول وداعا ليس لمحمود درويش الإنسان فحسب، بل لحقبة تاريخية كاملة، لمحطات كثيرة كان فيها صوت محمود ينتقل من منفى إلى منفى، ومن إيقاع إلى آخر، بقوة روحية وثقافية عالية. لقد استطاع درويش بذكائه واشتغاله الدؤوب وبصيرته النافذة أن يطور جماليات قصيدته، ويجترح مقترحات أسلوبية ومعالجات إيقاعية ولغوية فائقة الفرادة، خصوصا في العشرين سنة الأخيرة من حياته، فمن أعماله الأولى ذات النبرة الوطنية المباشرة وكانت تستدعيها تلك المرحلة إلى أعماله المتأخرة، حيث أوصل التجربة الفلسطينية وقضية شعبه إلى تخوم الأوديسا والفجيعة الملحمية، يقوده في ذلك صوت الحرية ونداء العدالة الإنسانية، ونبالة القضايا التي كان يدافع عنها.لم يظهر شاعر استطاع أن يوازن بين ما هو «جماهيري» وبين ما هو «نخبوي» مثلما فعل درويش، وفي أعماله الأخيرة تحديدا كانت «ذاته» قد استفردت بحيزها الخاص، وكان «الآخر» يظهر أيضا في خلفية هذه العلاقة الجدلية التي أوصلت شعره إلى أفق جمالي ومعرفي قل نظيرهما، ورغم أن درويش لم يكن بعيدا عن السياق السياسي الفلسطيني بملابساته المعقدة، هو الذي كتب ميثاق إعلان الاستقلال 1988م، ثم هو الذي اختلف مع أوسلو لاحقا، رغم هذا وربما بسببه كان درويش يصغي أولا وأخيرا إلى صوته الشعري، وإلى آلام شعبه، وينثر الأمل في الأمكنة التي آوته بمحبة استثنائية. محمود درويش، سلام عليك، ستبقى هنا.