اندفاع الحكومة نحو الخصخصة بطريقة ارتجالية نرى أنه ليس أمراً مخيفاً وخطيراً فحسب، بل هو يتصادم أيضاً مع الدستور الذي يفرض قواعد واضحة لعملية التخصيص ولكل قطاع على حدة، ويستثني موارد الثروة الطبيعية من سحبها من تحت جناح الدولة.

Ad

وقد لا يكون المجال مناسباً الآن في الخوض في فلسفة الخصخصة عموماً، لكن نجد لزاماً علينا التركيز على بالونات الاختبار التي شملت خصخصة التعليم والصحة، مع وجود أفضلية للبدء بالتعليم باعتباره رافداً لكل شؤون الحياة بما في ذلك الصحة.

ولا ننكر أن وضع التعليم في الكويت من سيئ إلى أسوأ بل أصبح على شفا الانهيار بمستوياته وقطاعاته المختلفة وحتى مؤسساته، لكن هذا لا يعني على الإطلاق أن خيار تخصيص التعليم سيحل المشكلة، بل قد تجد الحكومة أن خصخصة التعليم هو مجرد هروب من مواجهة هذا التحدي وإيجاد أقصر الطرق وأسهلها للابتعاد عن هم وصداع التعليم.

ولعل حالة الاستنفار والتصريحات والمواقف الاستباقية للكثير من النواب والمهتمين بالشأن التعليمي ساهمت إيجابياً في كبح جماح هذا الاندفاع الحكومي وإعلانها بأن الخصخصة لن تشمل التعليم في المرحلة القادمة، ومع ذلك لابد من الإشارة إلى جملة نقاط لعلها تعزز الموقف الرافض لبيع التعليم بالجملة.

إن البلد يمر اليوم بأخطر مراحل التفكك الداخلي والتعبئة بكل أنواعها من مذهبية وقبلية ومناطقية، والتعليم الرسمي، ومهما كان المستوى التربوي في ظله، يظل الوعاء الذي يحتضن كل أبناء المجتمع ومازال يتمتع بالقدرة على إعطاء الجرعة الوطنية والدعوة إلى التسامح والتعايش السلمي، ومثل هذه الخصوصية قد لا تكون متاحة في التعليم التجاري الذي يخشى أن يتحول بدوره إلى كانتونات فئوية إذا ما أطلق العنان لخيار الخصخصة الوحيد.

إضافة إلى ذلك ومن العمق التربوي والعلمي يجب أن تعي الحكومة الحقيقة الجلية بأن التعليم الحكومي مازال هو الأفضل في مخرجاته ومادته العلمية، خصوصاً إذا تدرجنا نحو المستويات التعليمية العليا في معظم دول العالم وفي مقدمتها الدول الرأسمالية التي خصخصت كل شيء ماعدا التعليم! وإذا لم تكن الحكومة مدركة لهذه الحقيقة فتلك كارثة، لاسيما أن وزيرة التربية والتعليم العالي من الجسم الأكاديمي وهي تعرف أكثر من غيرها هذا الأمر.

ولعل أكبر برهان على ذلك قيام وزارتي التربية والتعليم العالي بوقف دكاكين التعليم على مستوى الثانوية والتعليم الجامعي بعد التجربة "المسخرة" التي مررنا بها خلال الفترة القصيرة الماضية حيث تحول نصف شعبنا إلى متفوقين في الشهادة الثانوية وإلى أطباء ومهندسين ومحامين ومحاسبين ودكاترة في أقل من خمس سنوات، والمؤسسات الوحيدة عبر العالم التي مازالت وزارتا التربية والتعليم العالي تتعاملان معها، وفق الاعتماد الأكاديمي، هي الحكومية!    

إضافة إلى ذلك، فإن دراسات الجدوى والتخطيط الاستراتيجي والتنموي لتخصيص التعليم، خصوصاً التعليم العام، غير متاحة أو مهيأة حتى الآن، بل إن الحكومة لاتزال تعيش عقلية التعقيد في فتح التراخيص للمدارس الخاصة ومنح الأراضي لإنشائها، ولهذا فقد يكون الأمر مضحكاً إلى حد البكاء لو كانت وزارة التربية متجهة إلى تحويل ملكية المدارس القائمة إلى القطاع الخاص، فالكل يعلم أن جميع مدارس الدولة بلا استثناء واقعة في المناطق السكنية والسياسة الحكومة حالياً هي طرد المدارس الخاصة من هذه المناطق.

ولهذا فقد يكون الحل الأصعب وليس الأسهل هو قدرنا ويتمثل باختصار في أن التعليم بحاجة إلى ثورة إصلاح حقيقية واستعادة المخلصين والكفاءات الحقيقية لإدارة شؤونه وليس بيعه في المزاد العلمي.