للنساء وظائف أخرى... غير الإغراء
لا شك أن المرأة التي تعمل بالسياسة في بلادنا، وربما في مناطق أخرى من العالم، مجبرة على مواجهة الصعاب والتحديات كلها التي يتعرض لها نظراؤها من الرجال، على أن تضيف إلى تلك التحديات تحدياً محورياً غارقاً في السخف وعدم اللياقة، وهو التحدي المتعلق بكونها «موضوعاً للإغراء» وفق رؤية بعض الأطراف والقوى السياسية والاجتماعية.تفيد الإحصاءات أن عدد السيدات اللاتي يترأسن البرلمانات في العالم وصل في عام 2007 إلى 35 سيدة من بين 262 رئيساً للمجالس التشريعية، بنسبة غير مسبوقة بلغت 17%، فيما تشير دراسة للأمم المتحدة تحت عنوان «خريطة العالم للنساء العاملات في السياسة 2008» إلى أن نحو 18% من نواب العالم من النساء.
والواقع أن المعلومات لا تتوافر عما إذا كانت النساء البرلمانيات، اللاتي يشغلن مقاعد في المؤسسات التشريعية لعشرات من دول العالم، يتعرضن لممارسات تمييزية من زملاء لهن تنطلق من اعتبارهن «موضوعاً للإغراء»، لكن يبدو أننا سجلنا سبقاً في المنطقة العربية في هذا الإطار.فقد نشرت «الجريدة» في عددها الصادر أمس الأول (الخميس) أن النائب محمد هايف وجه مطالبات خلال جلسة الأربعاء الماضي تتصل بالنائبات السيدات، وأن تلك المطالبات انصبت على محورين رئيسين؛ أولهما يتصل بموضوع الضوابط الشرعية، حيث رأى أنه «لا يجوز شرعياً دخول المرأة مجلس الأمة باعتباره ولاية عامة»، وثانيهما يتصل بـ«تنقل النائبات والوزيرات من المقاعد وتبادلهن الضحكات مع زملائهن الأعضاء»، وهو ما أكد أنه «أمر غير جائز شرعياً».على أي حال لا يبدو أن المطالبة المتعلقة بمسألة «عدم جواز دخول المرأة المجلس باعتباره ولاية عامة» تستهدف أكثر من الضغط وإثارة الانتباه؛ إذ فند علماء عديدون من ذوي المكانة والأهلية هذه المسألة؛ ومن بين هؤلاء الشيخ يوسف القرضاوي، الذي أكد جواز شغل المرأة للمقاعد البرلمانية، رافضاً اعتبارها من قبيل الولاية العامة، التي قصرها على منصب الرئاسة العليا في الدولة.الأمر الخطير في ما ذهب إليه النائب هايف يتعلق بمسألة «التنقل من المقاعد» و«تبادل الضحكات» مع الزملاء من الأعضاء؛ إذ يعكس هذا الطرح عدداً من الإشكاليات الحساسة؛ بعضها يتعلق بالصورة المفترضة للمجلس في ذهن أعضائه، وبالتالي لدى المجتمع وفعالياته المختلفة، وبعضها يتصل بما يتصوره النائب نفسه عن مناقب زملائه من الجنسين وأخلاقياتهم ومجالات اهتماماتهم.نعرف أن نواب البرلمانات والوزراء في أي حكومة والناشطين في الشأن العام والسياسيين من كل نوع كلهم من البشر الذين يسري عليهم ما يسري على بقية فئات أي مجتمع من المجتمعات، وندرك تماماً أن بينهم من يستغل موقعه في ما يناقض المصلحة العامة، أو يمارس سلوكاً يتنافى مع الأخلاق والقيم لأسباب وظروف شتى، لكن ذلك لا يمنعنا من التيقن من أن جزءاً كبيراً من استخدام الذرائع الأخلاقية لـ«ضبط أداء المرأة السياسي أو تقييده» لا يعكس حرصاً على الأخلاق والقيم بقدر ما يستخدم بغرض جلب الشهرة أو ممارسة الابتزاز السياسي.إنه نوع واضح من «التمييز الجنسي» ضد المرأة السياسية وحلفائها والمدافعين عن حقوقها في التمثيل وشغل المناصب العامة؛ وهو تمييز يتخذ عدداً من الأشكال، ويتوزع على بضع مراحل، ويترجم في مجموعة من السلوكيات والممارسات، لكن أعنف تلك الممارسات وأكثرها قسوة وإيلاماً يقع حين يضع الخصم السياسي المرأة في صورة «الأنثى» التي يُخشى منها باعتبارها موضوعاً للإغراء ومحركاً للغرائز، ويضع حلفاءها وزملاءها ونظراءها في موقع «المتهم» أو «الحائم حول مواضع الشبهات».وللإنصاف يجب القول إن سياسيين في بلدان مختلفة من العالم استغلوا هذه المسألة، وراحوا يبنون استراتيجيات ويطورون سياسات ضد خصومهم من النساء ومؤيدي حقوق المرأة، مستخدمين التمييز الجنسي على اعتبار أن المرأة السياسية في مواجهتهم «محض أنثى»، وليست «نوعاً اجتماعياً» تمنحه العدالة وتكافؤ الفرص الأوضاع القانونية والسياسية نفسها التي يحظى بها النوع الآخر.كما يقتضي الإنصاف كذلك القول إن عدداً من النساء أساء استخدام الحقوق السياسية التي يتمتع بها، وخلط عمداً بين نوعه الاجتماعي وما تمنحه الأنوثة من «خصائص» بيولوجية وحسية، وحاول أن يستثمر النزعة الذكورية تجاهه لحصد مكاسب رخيصة.وسائل الإعلام أيضاً لعبت دوراً سلبياً في هذا الصدد، وراح بعضها، للأسف، يركز كثيراً على البعد الأنثوي في المرأة التي تعمل في السياسة أو تتصل بها، مكرساً فكرة «وظيفة الإغراء لدى المرأة المنخرطة في العمليات السياسية».ولقد بدأت هذه الممارسات منذ آلاف السنين؛ إذ يحمل لنا التاريخ الكثير من القصص عن الأبعاد الجنسية والأنثوية في حياة النساء اللاتي اعتلين عروشاً، أو هؤلاء اللاتي لعبن أدواراً في قصور الحكم ومنتدياته. وحديثاً بتنا نعرف جميعاً عن دعاة هاجموا رئيس دولة عربية راحلاً لأن زعيماً أجنبياً قبل زوجته قبلة بروتوكولية، وشعراء اتهموه بـ«عدم النخوة» لهذا السبب، فضلاً عن سياسيين اعتبروا أنه حقق مكاسب سياسية من جراء تلك القبلة.كما قرأنا جميعاً عن الانتقادات التي وجهت إلى وزيرة أميركية سابقة قادتها الظروف إلى زيارة دولة عربية محافظة مرتدية زياً قصيراً، فذهبت بعض التحليلات إلى أن أذهان القادة الذين التقتهم كانت مشتتة بفعل ما يكشف عنه الزي القصير، وهي نفسها الوزيرة التي اُتهم زعيم فلسطيني سابق بأنه غير استراتيجياته موافقاً على مطالبها لأنها بادلته بعض القبلات.الإعلام كذلك يلعب اللعبة ذاتها؛ فيركز الأضواء على النساء في المحافل السياسية أكثر مما ينبغي ومن دون مراعاة التوازن بين أدائهن على الأرض ووجودهن في القصص والصور.ومن أبرز الدلائل في هذا الصدد عالمياً ما يتصل بتركيز وسائل الإعلام على ربتة يد من رئيس دولة على كتف ملكة دولة أخرى، أو إسهابها في تناول شائعات لا يقوم عليها دليل عن تقارب وود يفوق الحدود الطبيعية بين زعيم وزعيمة لدولتين كبيرتين، أو ملاحقة رئيس دولة مهمة بالصور والتعليقات والإشاعات بأكثر مما ينبغي لأنه متزوج من عارضة أزياء سابقة تتمتع بقدر من الجمال والجاذبية.الأمر ذاته يبرز في التركيز على التقاط صور النائبات في المجالس النيابية مقارنة بصور الرجال، أو كما حدث في التظاهرات والمسيرات الانتخابية في بلد كلبنان، حيث يشعر المرء أن الرجال لا يشاركون في تلك الأحداث للكثافة غير المنطقية التي تحظى بها تغطية المشاركة النسائية فيها، وهو الأمر الذي يبدو واضحاً الآن في تغطية الانتخابات الرئاسية الإيرانية.يبقى أن بعض النسوة المنخرطات في العمليات السياسية في بلادهن يحاولن اللعب على الوتر ذاته؛ ولعل أفضل مثال على هذا أن أكثر الصور رواجاً عن الانتخابات البلدية التي شهدها المغرب أمس كانت لمرشحة صيدلانية عن حزب «الأصالة والمعاصرة» تدعى «بنحمو»، وقد كانت تلك المرشحة أكثر من حظي بالتغطية المحلية والإقليمية من بين نظرائها من المرشحين، بسبب الصور التي أظهرتها كـ«فتاة فيديو كليب أو عارضة أزياء» كما قالت أغلب الصحف والمواقع الإلكترونية التي اهتمت بالحدث.قبل نحو عقدين نشر الشاعر المبدع محمود درويش قصيدة رائعة قال فيها: «للنساء وظيفة أولى هي الإغراء»، ويبدو أن سياسيين وإعلاميين وجمهوراً وقطاعاً نسوياً أيضاً صدق هذا الطرح وآمن به وراح يكرسه أو يستخدمه أبشع استخدام في ممارسة العمل السياسي ومقاربته.والشاهد أن للنساء وظائف عديدة، وأنهن جديرات بكل ما يتمتع به الرجل من حقوق سياسية تتعلق بعضوية البرلمانات أو شغل المقاعد الوزارية أو العمل بالشأن بالعام، وأن بينهن من تفوقت بأساً ونباهة ووطنية وتديناً وتمسكاً بالأخلاق والقيم على كثيرين من نظرائها من الرجال، وأنه من العار أن ينظر إليهن كبرلمانيات أو وزيرات باعتبارهن، فقط، «موضوعاً للإغراء». * كاتب مصري كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء