الصحافة الغربية و«حزب الله»
تستمتع الصحافة الغربية باستنهاض مشاعر جمهورها عبر إظهار الأوجه المتعددة لـ"حزب الله"، أي أنه ليس ميليشا تتوق إلى ذبح اليهود فحسب، إنما أيضاً مجموعة تُعنى بالرفاه الاجتماعي وتوفّر فرصاً تعليمية.
طردت شبكة "سي إن إن" كبيرة المحررين فيها لشؤون الشرق الأوسط، أوكتافيا نصر، حتّى بعد اعتذارها عن تعليقها الطائش على موقع Twitter (تويتر) في ذكرى يوم الاستقلال في الولايات المتحدة معبّرةً عن احترامها لمحمد حسين فضل الله الذي توفي أخيراً. لذلك يشعر أصحاب المدوّنات والصحافيون اليوم بالغضب، ويلقي البعض بمسؤولية هذا الإجراء الوظيفي على "المحافظين الجدد"، بمن فيهم على ما يُفترض دانييل هالبر، الكاتب في مجلة The Weekly Standard الذي علّق في هذه المجلّة على ما عبّرت عنه نصر في موقع "Twitter"، فضلاً عن ذلك، كتب مؤلّف كتاب Israel Lobby، ستيفن وولت، بأن "الرد الجبان" لقناة (سي إن إن) "من الأسباب الإضافية وراء اعتبار الصحافة الرئيسة فاسدة أخلاقياً على نحو متزايد".وولت وغيره آخرون محقّون إلى حد ما، فلمَ اختيرت نصر دون غيرها لتعبيرها علناً عن موقف وسائل الإعلام الأميركية بشأن أعضاء "حزب الله"، الذين كانوا مرحلة من المراحل زملاء لفضل الله؟ هل يشك أي أحد مثلاً في أن سيمور هيرش من مجلّةThe New Yorker "يحترم" المنافس الأكثر فساداً من رجل الدين الراحل، أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله، الذي أجرى مقابلة معه في المجلّة عينها؟
تستمتع الصحافة الغربية باستنهاض مشاعر جمهورها عبر إظهار الأوجه المتعددة لـ"حزب الله"، أي أنه ليس ميليشا فحسب تتوق إلى ذبح اليهود، إنما أيضاً مجموعة تُعنى بالرفاه الاجتماعي وتوفّر فرصاً تعليمية. كذلك تتعاون هذه الصحافة مع "حزب الله" عبر نشر صور مزيّفة "لجرائم حرب" إسرائيلية. تعج صفحات الافتتاحية في الصحف الأميركية بمقالات تروّج لـ"براغماتية" و"اعتدال" حزب الله (ما يصادف أيضاً أنه موقف مستشار الرئيس لشؤون مكافحة الإرهاب، والتحليل الأخير للقيادة المركزية الأميركية)، بينما تنقل المقالات الصادرة من لبنان البيانات الصحافية لـ"حزب الله" على شكل تحليل موضوعي، فإن طُرد كل صحافي أميركي أشار إلى أمل سعد غريب التي تتحدّث بلسان حزب الله بـ"الباحثة" المحترمة، ستخسر حانات بيروت الشرقية 25 في المئة من أعمالها. من المعروف جيّداً في بيروت أن "حزب الله" وأتباعه المؤيدين لسورية يديرون الصحافة الأميركية ببراعة كأقل تعبير، هذا إن لم يكن بنشاط بما يخدم مصالح الحزب. يتوقّف معظم الصحافيين كمحطة أولى عند وزير الإعلام السابق في لبنان، ميشال سماحة، أحد المخلصين للنظام السوري، والذي ينظّم مقابلات مع كبار القادة في الحزب وأصدقاء آخرين في المقاومة الإسلامية. لكن متلقي الإعلام الأميركي هم وحدهم الذين لا يفهمون قواعد اللعبة في لبنان، لأن المحررين في مكاتب الأخبار في الولايات المتحدة يعلمون بالتأكيد ما الذي يجري. في النهاية، لو كان هؤلاء المحررون مهتمين حقاً في إعداد تقارير موضوعية، لأُطيح برؤوس بعد الانتخابات البرلمانية التي جرت في لبنان في يونيو الماضي والتي توقعت فيها الصحافة الأميركية بالإجماع فوز تحالف الثامن من مارس الذي يقوده "حزب الله". كان يجدر بالمحرّرين الفضوليين في أنحاء البلاد سؤال مراسليهم في الشرق الأوسط ورؤساء المكاتب الأخبارية في بيروت عن سبب عدم تمكنّهم من ملاحظة ما تحوّل لاحقاً إلى فوز قوّات الرابع عشر من مارس المعارضة. لمَ فهموا جميعهم الأمر على نحو خاطئ؟ أو لمَ يحاولون الحصول على أرقام عن استطلاعات رأي من الجانب الآخر الذي يُصوّت له في ما تبيّن أنه هزيمة نسبية لحلفاء "حزب الله"؟ لهذا قررّتُ ومجموعة من الزملاء اللبنانيين استمالة وفود من الصحافيين الأميركيين خلال العامين الماضيين، لكي يكون هناك من يستمع إلى الطرف الآخر. هذا الافتتان بـ"حزب الله" قائم منذ سنوات، وذلك ليس لأن الحزب أنشأ أسلوباً رائعاً من الانتقاد الصحافي عبر اختطاف صحافيين في ثمانينيات القرن الماضي فحسب، إنما لأن وسائل الإعلام الأميركية معجبة بـ"حزب الله". ففي النهاية، من الملفت أن يكون المرء قادراً على قتل أعدائه، سواءً كانوا يهوداً أم زملاء لبنانيين، إلى الحد الذي تفتقر فيه الليبرالية، والمقاومة غير العنيفة، وحكم القانون ومعارضة القتل السياسي إلى الجاذبية. دعونا لا ننسى أنه منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في فبراير 2005 تجاهلت وسائل الإعلام الأميركية عموماً ثورة الأرز باعتبارها لا تتمتع بمصداقية كافية. فبالنسبة إلى معظم الصحافيين الأميركيين، لم يكن التحالف المؤلّف من طوائف متعددة يتضمن عرباً "حقيقيين" مثل "حزب الله" وإنما ثورة من النوع الفاخر.ذلك هو المحيط السياسي الذي عملت فيه نصر، ولا يوجد ما يشفع في أن يكون المرء لبنانياً مسيحياً مثلها، فحيث يُعامل حزب الله برصانة، لا بل بإطراء، يبدو المجتمع المسيحي في نظر كثيرين متخلّفاً سياسياً وعنصرياً تجاه المسلمين. في هذا الإطار، شرحت نصر في مدوّنتها حيث تتوسّع في الحديث عن سبب "احترام" امرأة مسيحية فضل الله، كيف أنها قابلت رجل الدين هذا خلال عملها مع الشبكة اللبنانية للإرسال (إل بي سي)، التي كانت آنذاك ملكاً للقوات اللبنانية، الحزب المسيحي الرئيس آنذاك. أمّا اليوم، فيصعب إيجاد إيعاز في الصحافة الأميركية إلى القوات اللبنانية من دون أن يكون مسبوقاً بكلمة "يمينية" التي تستخدمها وسائل الإعلام الأميركية المهتمة بكل ما هو رائج لاستبعاد منافسيها.من يدري إن كانت نصر تعوّض بشكل مبالغ فيه عن الطريقة التي ينظر بها زملاؤها الأميركيون إلى طائفتها، أو حتّى قصدها بـ"احترام" فضل الله. في الشرق الأوسط، المعيار منخفض على نحو شهير، إذ ريُرحب بالشخصية الدينية التي تعتقد أنه من الخطأ ختان الفتيات باعتباها ذات فكر تقدّمي، أمّا في لبنان، فالمعيار أكثر انحرافاً. يُنظَر بـ"احترام" إلى حسن نصرالله كونه مستقيماً وذا بصيرة، بالرغم من تواريه في مخبأ بعد مرور أربع سنوات على جر بلاده إلى حرب بالنيابة عن إيران وسورية. من جهة أخرى، يُنظر إلى سمير جعجع، قائد القوات اللبنانية المسيحي، بازدراء حتّى بعد أن أمضى أكثر من عقد في سجن انفرادي باعتباره زعيم الميليشيا الوحيد الذي دفع ثمن جرائمه خلال الحرب الأهلية في لبنان عوضاً عن إصلاح الوضع مع النظام في دمشق.من يعلم كيف تنظر أوكتافيا نصر إلى فضل الله بحق، لكن من السهل الاستنتاج بأنها وقعت فريسة سياسة الأقلية مرّتين، فهي كصحافية مسيحية تعمل في منطقة ذات غالبية مسلمة، تصوّرت أن اعترافها باحترام صاحب نظريات إرهابية سيكسبها مصداقية كصحافية "موضوعية"، وكامرأة عربية، تتحمّل مسؤولية رأي يعتقد به جميع نظرائها المحترفين في الغرب تقريباً.* لي سميث | Lee Smith