عملية اجتثاث الجذور وسقوط تبريرات الإرهاب

نشر في 31-08-2009
آخر تحديث 31-08-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري حققت الأجهزة الأمنية السعودية إنجازاً أمنياً متقدماً في عملية «اجتثاث الجذور»، إذ تمكنت من القبض على تنظيم تابع لـ«القاعدة» مكون من 44 قيادياً يحملون شهادات عليا، وفيهم من يحمل الماجستير والدكتوراه وآخرون متخصصون في الهندسة وفي دورات تدريبية متقدمة في استخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة وإعداد المتفجرات، والمذهل أنهم من الشخصيات الذين لهم مكانتهم في المجتمع وهم موضع ثقة، لكنهم استغلوا هذه الثقة والمكانة كما استغلوا العمل الخيري في نشر الفكر الضال وتجنيد الشباب بهدف تنفيذ العمل الإرهابي، وقد كانوا يعملون في منتهى السرية والحذر إلا أن الأمن كان لهم بالمرصاد، حيث تمكن من جمع المعلومات الكافية للقبض عليهم، وضبط كمبيات كبيرة من الأسلحة والذخائر والدوائر الإلكترونية المعدة للتفجير عن بعد.

يأتي هذا الإنجاز الأمني ليضيف إلى رصيد الإنجازات الناجحة للأمن السعودي منذ أن بدأت «القاعدة» نشاطها في السعودية قبل 6 سنوات، فقد تمكنت قوات الأمن من إحباط ما يزيد على 160 عملية، وقبل هذه العملية الأخيرة، أحالت وزارة الداخلية 991 متهماً إرهابياً إلى المحاكمة في أكبر محاكمة شرعية للإرهابيين في العالم الإسلامي.

دعونا الآن نتساءل: ما الدلالات الأمنية لعملية «اجتثاث الجذور»؟ إن أولى الدلالات المهمة هي سقوط وهم كبير طالما ردده محللون سياسيون وروجته منابر دينية خصوصا في السعودية من كون الإرهابيين أناسا «جهلاء» بأحكام الدين، تأتي هذه العملية لتنسف هذا الوهم ولتؤكد أن الإرهابيين ليسوا جهلة، ففيهم من يحمل أعلى الشهادات وعندهم الخبراء الشرعيون والمنظرون فضلاً عن المهندسين والأطباء والمتخصصين في الحاسوب وغيره، وعندهم مشايخهم الذين يستشهدون بالنصوص الدينية في تبرير عدوانهم ويحاججون بها خصومهم، صحيح أنهم أهل ضلال إلا أنه يجب الاعتراف بأنهم ليسوا جهلاء، فهم، كما قال الله فيهم «الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا»، فهم إذن أهل ضلالة مركبة، وفي الناس من يضله الله على علم وهذا أخطر أنواع الضلال، أما ثاني الأوهام فهو ما ظل يردده ويروج له منظرو الإسلام السياسي وبعض المثقفين والمحللين من كون الإرهاب رد فعل للمظالم الداخلية والخارجية، وهم يقصدون بالمظالم الداخلية الاستبداد السياسي وغياب المشاركة الشعبية ومصادرة الحريات وقمع المعارضة السياسية، وهذا تبرير واهم لأن كل الطروحات الإرهابية لم تتضمن يوماً مطلباً ديمقراطياً، فهؤلاء يرون الديمقراطية «كفراً» والحريات «فجوراً» وحقوق الإنسان «بدعة غربية» وستاراً لأطماع أجنبية، ولو كان غياب الديمقراطية مبرراً لقيام الإرهاب فما تفسير الإرهاب في دول هي قمة في الحريات مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا؟! أما المظالم الخارجية فيقصدون بها المظالم الغربية والأميركية للمسلمين والمظالم الإسرائيلية العدوانية على الفلسطينيين، وهؤلاء المحللون يبررون العمل الإرهابي ويفسرونه كرد فعل للعدوان الغربي والأميركي والإسرائيلي في الثأر لكرامة الأمة، وإثبات أن المسلمين لا يقبلون الذل والإهانة، ولكن هؤلاء لا يقولون لنا إذا كان الإرهاب وليد المظالم الخارجية للمسلمين، فما ذنب الأبرياء نساءً وأطفالاً وعمالاً بسطاء ومصلين في مساجد ومحزونين في عزاء أن يذهبوا ضحية أعمال الإرهابيين؟ وما علاقة ذبح المسلمين بالجملة والإسراف في الدماء بالمظالم الغربية لنا؟

انظر عبر الساحة هل ترى غير المسلمين ضحايا أعمالهم العدوانية؟ يدخل الانتحاري مسجداً في باكستان ويفجر نفسه في المصلين حتى تختلط الأشلاء ولا يتعرف ذووهم عليهم إلا من خلال أحذيتهم ونعالهم، أو يفجر الانتحاري نفسه في مطعم شعبي في بغداد مزدحم بعمال كادحين ويزعم أن ذلك في سبيل الله، ثم يأتي المحللون ليقولوا إن هذا الإرهاب من أجل الانتقام لكرامة الأمة الجريحة!!

هل نحن الأمة الوحيدة المعرضة للمظالم؟ أمم وشعوب شتى تعاني مظالم أشد ومع ذلك لا يعرفون شيئاً عن تفجيرات تزهق أرواحهم، لقد كانت مظالم المسلمين لبعظهم منذ فجر التاريخ الإسلامي وحتى اليوم أشد وأنكى من مظالم الآخرين لهم، انظر كيف تتقاتل الجماعات المتشددة في الصومال وفي العراق وأفغانستان! انظر كيف فجرت «حماس» منزل أمير «جند أنصار الله» بمن فيه لمجرد إعلانه قيام الإمارة الإسلامية! وإذا كان الإرهاب وليد الظلم الإسرائيلي والأميركي فلماذا لا تنتقم «القاعدة» من إسرائيل؟ ولماذا لم تطلق طلقة واحدة ضدها؟! ولماذا تضرب في ديار المسلمين؟!

وثالث التبريرات الزائفة ما يصوره البعض من أن الإرهاب رد فعل للتطرف العلماني واستطالة العلمانيين واستفزازهم للمشاعر الدينية، وتهجمهم على العلماء، لكنه تبرير ساقط من أساسه، فأين هم العلمانيون في السعودية؟! وأين التطرف العلماني هناك؟ ولم يعرف عن العلمانيين في الدول العربية أنهم فجروا أو كفروا أو لجؤوا إلى العنف ضد خصومهم، ونسأل مرة أخرى إذا كان الإرهاب وليد الغلو العلماني فلماذا تفجير الأبرياء؟!

ورابع التبريرات الواهية القول بأن الإرهاب صيحة احتجاج ضد مظاهر التبرج وخروج المرأة وتقلدها المناصب القيادية، وشيوع المنكرات والاختلاط والتشبه بالكفار ومظاهر الحياة الغربية، وهذا تبرير زائف لأن هذه المظاهر لا وجود لها في السعودية. 

 وخامس التبريرات الواهية القول بأن عدوان هؤلاء بسبب عدم تطبيق الحدود الشرعية، وهذه ذريعة زائفة لأن السعودية من أكثر الدول الإسلامية التزاماً بالحدود الشرعية.

 أما التبرير الأخير الذي يزعم أن الإرهاب نتاج الفقر والبطالة والوضع الاقتصادي الخانق وتعبير عن حالة السخط والإحباط، فهذا تبرير لا سند له لأن تلك الجماعات المتشددة لا تعاني فقراً ولا بطالة ولا ضائقة، بل عندهم من الأموال ما يمكنهم من شراء الأسلحة وتمويل عملياتهم التخريبية.

تأتي عملية اجتثاث الجذور لتنسف كل الذرائع والتبريرات المغلوطة التي تتردد في وسائل الإعلام كتشخيص للظاهرة الإرهابية، فما إن يحصل تفجير انتحاري حتى يطل علينا المحلل السياسي ليربط ذلك بما يحصل في فلسطين والعراق وأفغانستان، ترى ما علاقة تفجير أناس أبرياء في مسجد أومطعم بقضية فلسطين أوغيرها؟!

إن تعرية الظاهرة الإرهابية من الدوافع السياسية، يمكننا من تشخيص أفضل للإرهاب ومن ثم معالجته من جذوره البعيدة وعدم الاكتفاء بمواجهته الأمنية، والذين يفسرون الإرهاب بقانون رد الفعل واهمون أو يريدون توظيفه لأهداف إيديولوجية، وهم بنفخهم في الدوافع السياسية إنما يقفزون فوق الدوافع العقدية ويتقولون على أصحاب هذه العمليات ما لم يقولوه، إذ إن الجماعات الإرهابية كثيراً ما تفاخر وتجاهر بأن هدفها إحياء فريضة الجهاد وتطبيق الشريعة بحسب مفهومها الضيق وعودة الدولة الطالبانية، إن التشخيص الخاطئ للظاهرة الإرهابية يمد في عمرها والربط الخاطئ بين الإرهاب والعوامل السياسية ربط يضلل ويزيف الوعي الجماهيري العام. 

 الإرهاب بعبارة واضحة، فكر عدمي استولى على نفسية مريضة في بيئة حاضنة، ولذلك يقول عبدالله بن بجاد العتيبي «غير مفيد أن تلاحق الإرهابي وتترك المتطرف، ومضر أن تعلن الحرب على المخرب وتجامل من عبأه بالفكر التخريبي». إن الإرهاب في- التحليل الأخير- هوغبار تراثنا، وعلينا أن ننفضه عبر إشاعة البهجة في حياتنا بالانفتاح على الثقافة والفنون والفكر الحر وقيم التسامح وكرامة الإنسان وإنصاف المرأة، ولا حل للمد المتصاعد للتشدد إلا بخطاب معرفي نقدي شامل لكل المنظومة الثقافية المجتمعية، وعندما يصبح الإمام إرهابياً فغير مفيد أن نقول: إن ذلك بسبب الظلم الأميركي إنما علينا مساءلة المناهج، إننا اليوم بحاجة إلى خطاب يحقق «المناعة» الفكرية للمجتمع لا خطاباً لـ«الممانعة» يقيم الحواجز بيننا وبين الآخر، ويزيدنا توتراً وكراهية للحياة وتمرداً على المجتمع والعالم المعاصر.

* كاتب قطري

 

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top