ها هو ذا رجل من الألف الخامسة قبل الميلاد، قد يبدو مثيرا للابتسام أو للشفقة، بقامته القصيرة الممتلئة، ورأسه الحليق، وملامح وجهه المطمئنة التي لا تخلو من المسكنة.. لكنه، مع ذلك، يبدو أكثر إثارة للاهتمام والاحترام معا، فهو ليس أي رجل.. إنه واحد من حملة الأقلام، وليس ذلك بالشيء الهين.
صحيح أن الكاتب السومري (دودو) بمئزره المنسدل فوق بطنه المنفوخ، يبدو أكثر شبها بخباز يأخذ قسطا من الراحة بعيدا عن نار التنور، لكن هذا لا ينبغي أن يغرينا بالضحك، أو يحملنا على تقليل نسبة اللياقة والاحترام في حضرته.. فهذا هو بالضبط ما كان يجب أن تكون عليه هيئته.. ومن الجهل أن نتخيل غير هذا الزي لكاتب قلمه ميسم، وليست ورقته إلا كتلة من الطين.أتأمل تمثاله الصغير، وهو جالس على كرسيه الشبيه بالمقعدة، عاقدا يديه على صدره بسلام واطمئنان، ومرخيا جفنيه كأنه في غفوة، وأتساءل: «فيم تفكر يا عم دودو؟».من الصعب جدا أن أتخيله واقعا تحت وطأة أي من أسباب القلق التي تعصف بكاتب هذه الأيام.هل كان، مثلا، يخشى من مصادرة كتبه؟ كلا بالطبع، إذ لم تكن «سوسة» بث الوعي قد بدأت تراوده بعد، إنما اقتصر ما يكتبه على حسابات الحقول والمواشي وقرارات الحكومة، وإذا اهتم رقيب الحكومة، آنذاك، بمصادرة حساباتها، فهو مجنون بلا ريب... ليس لأنه فكر بالمصادرة، بل لأنه لم يفكر بأن حمله لخمس صفحات فقط كاف تماما لكسر ظهره إلى الأبد.وعلى ما أعتقد فإن «دودو» لم يكن أيضا مهموما بسطوة المزورين، فالاستنساخ في عهده لم يكن أقل مشقة من التأليف، إذ كان على المزور سيئ الحظ أن يلبس المئزر، ويغرق في الطين أياما، لينسخ في النهاية شيئا لا يرغب أحد في شرائه.من السفاهة أيضا أن نتخيله خائفا على كتبه من الحرق.. وأظنه لو تعرض لمثل هذا الأمر لما اكتفى بشبه الابتسامة التي تظهر باقتصاد على شفتيه الرقيقتين، إنما لانفجر مقهقها، فأتاح لنا أن نعرف ما إذا كان يضع طقما أم أن أسنانه طبيعية. ذلك لأنه هو نفسه معتاد على إحراق كتبه بنفسه، وإلا فكيف سيمكن لها أن تكون صلبة ومقاومة لعاديات الزمن، إذا لم تفخرها النار المسجورة؟!لا يبقى لنا، في النهاية، إلا الإقرار بأن «دودو» مطمئن بالفعل لا أكثر، ومن شأنه أن يطمئن وأن يستمتع بعلو منزلته ككاتب في ذلك الزمن البهيج، إن مصائب الكاتب كلها جاءت بعد اختراع الورق، ثم تفاقمت بشكل مريع بعد اختراع المطبعة، حيث أصبح الاستنساخ أسهل وأوفر، مما أغرى الكاتب بأن يغادر حجرة (المحاسب)، لينطلق راكضا في سهول الفكر الفسيحة، وهو الأمر الذي أغرى السلطان، بدوره، بأن ينصب المحارق لاصطياد ثلاثة عصافير بجمرة واحدة: الكتاب والكاتب والقارئ معا. أي بعبارة أخرى إحراق دعائم الجسر الذي من دونه تنقطع السبل بالسيدة الفاضلة المسماة بـ»الحضارة».ولعل أبشع صورة تحملها أذهان أغلب الناس لظاهرة حرق الكتب قد تجلت في إحراق النازيين عام 1933 عشرين ألف كتاب، في برلين، بحضور مئة ألف متفرج، وأمام عدسات آلات التصوير.لكن تلك الصورة لم تكن سوى ملمح جزئي ضئيل من اللقطة البانورامية الواسعة لاحتفالية إعدام الكتب في التاريخ.الكاتب الأرجنتيني «ألبرتو مانغويل» يحدثنا في كتابه الشيق «تاريخ القراءة» عن أن هذا التاريخ مملوء بالحكايات التي لا نهاية لها عن حرق الكتب، من لفائف الورق الأولى حتى الكتب في يومنا هذا... ومنها أن القيصر الصيني (شيهوانغ- تي) قد حاول في عام 241 قبل الميلاد، إلغاء القراءة، عندما أمر بحرق جميع الكتب الموجودة في إمبراطوريته!وقبل ذلك بمئتي عام، أحرقت في أثينا كتب «بروتاغوراس»، وفي القرن الأول بعد الميلاد أمر القيصر «كاليغولا» بإبادة جميع مؤلفات هوميروس وفرجيل وليفيوس.. وفي عام 303 أمر الإمبراطور «ديوقليتيانس» بحرق وإبادة جميع المؤلفات المسيحية.ويذكر أن هذه لم تكن سوى البدايات، وكأنه يقول إن تاريخ المحارق يحتاج إلى كتب كثيرة من أجل حصره، ولا يتورع في هذا السياق من أن يلحق «الرقابة» بكل أنواعها بطابور المحارق، فالخنق والحرق سواء لديه، فكلاهما جريمة قتل.لماذا يحرقون الكتب؟يقول «مانغويل» إن الدكتاتوريين يخافون الكتب أكثر من أي اختراع بشري آخر على الإطلاق، ونظرا لعدم استطاعتهم إبطال مفعول القراءة بعد تعلمها، فإنهم يلجؤون إلى الحل الثاني الذي يفضلونه، ألا وهو منع تعلم القراءة!وفي هذا الصدد تبدو مقولة «فولتير» الساخرة حول مخاطر القراءة إيجازا شاملا ومؤلما أيضا للرأي السالف، حيث يقول إن الكتب «تشتت الجهل، هذا الحارس الأمين والضامن الحريص للدول ذات الأنظمة البوليسية»!أنظر إلى وجه «دودو» المطمئن.. وأتساءل: هل كان الكاتب الأميركي «راي برادبري» على بينة من كل تفاصيل هذا التاريخ، عندما أبدع تحفته الروائية «451 فهرنهايت»، أم أنه اكتفى بالتقاط الهاجس من موحيات الفترة ما بين الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، مستلهما تفاصيل روايته من ألمانيا الهتلرية الرائدة في حرق الكتب، ومن إعصار المكارثية في أميركا خلال الخمسينيات؟مهما يكن الأمر، فإن برادبري، على ما يبدو، لم يكن مقتنعا بأن محارق الكتب مسألة في ذمة الماضي، بل إنها، بالنسبة إليه، واقع ممتد يكاد يراه بعينيه ويلمسه بيديه.في تلك الرواية التي صدرت عام 1953، وحولت إلى فيلم سينمائي في أواخر الستينيات، من إخراج الفرنسي «فرانسوا تروفو»، يتخيل برادبري دولة مستقبلية تؤمن حكومتها بأن الناس الذين يقرؤون أو يفكرون تفكيرا مستقلا، هم خطر على الأمة، ولذلك تسعى إلى تدمير الكتب ووسيلتها لإنجاز هذه المهمة.. فرق تشبه فرق الإطفاء، لكنها، ويا للمفارقة، تقوم بالإحراق.. إحراق الكتب!ولعل هذه الفرق لا تعدم نصيبها من صفة الإطفاء، إذا تذكرنا أن إحراق الكتب لا يعني في النهاية سوى إطفاء الوعي.في تلك الدولة المتخيلة، يبدو الناس وكأنهم يعانون مجاعة شديدة القسوة، هي مجاعة الوعي والتفكير، حيث لا يمكن للمرء أن يحصل على المتعة والمعلومة إلا من خلال دائرة تلفزيونية مركزية تبث برامجها بشكل دائم ومتكرر وكأنها تنويم مغناطسي مستمر!وبالنسبة للفيلم المأخوذ عن هذه الرواية، نجد أن المخرج قد أضاف لمسة بالغة الذكاء في تعامله مع الموضوع، إذ أظهر الصورة منذ البداية، وعلى خلاف المعتاد، خالية من العناوين المكتوبة، واستعاض عن ذلك بالصوت وحده في ذكر أسماء الممثلين والفنيين، إمعانا في إشعار المتفرج بجو الرواية الرهيب الذي يُمنع فيه كل شيء مكتوب!بطل الرواية واحد من العاملين في حرق الكتب، يدفعه الفضول إلى اختلاس بعضها خلال عمله، وحين يبدأ القراءة يندفع للاختلاس أكثر، ومرة بعد مرة يشعر بالغربة والاختلاف عمن يحيطون به، إذ تجعل منه القراءة إنسانا جديدا، وعندما يكتشف أمره، يضطر إلى الهرب، ويساعده في ذلك أفراد هاربون هم أشبه ما يكونون بأعضاء تنظيم للمقاومة!وفي الغابات، حيث يختبئ هؤلاء، نرى كل واحد وواحدة منهم عاكفا على ترديد فصول كتاب معروف، من أجل تثبيته في ذاكرته، فهم لكي يحافظوا على بقاء المؤلفات جعلوا أنفسهم كتبا حية متحركة!هل يبدو موضوع الرواية بعيدا عن واقعنا الحالي؟ لا أعتقد. ذلك لأن برادبري حاول أن يصور مجتمعا لا يريد لعقله أن يتصدع بضجة التفكير، إنما يفضل، بدلا من ذلك، أن يستسلم لدعة الراحة واستقبال الأشياء الجاهزة، حيث يركل الكتاب جانبا، ليفرغ مكانه للتلفزيون والرياضة، باعتبارهما متعة سهلة لا تتطلب تحديا فكريا ولا رياضة عقلية.المحارق مستمرة، إذن، ياعم «دودو».. هنيئا لك زمانك الطيني.* شاعر عراقي
مقالات
حديقة الانسان: المحارق مستمرة... ياعم «دودو»!
30-10-2009