المشهد من فيلم عربي قديم... "فلاح بائس يبلغ زوجته بكل الحزن والأسى، وبصوت مخنوق وعيون اغرورقت بالدمع خبر الفجيعة التي حلت بهم: "الجاموسة ماتت يا صفية"!
تولول "صفية" بأعلى صوتها، تضرب على صدرها، وتكاد تشق ثوبها، لولا خاطر يمر بها ويذكّرها أنه الثوب الوحيد الذي تملكه!يشاركها زوجها بالبكاء أكثر مما بكى يوم ماتت والدته، وقد تجمع أطفالهما حولهما ذاهلين مرتجفين وقد ألجمتهم المفاجأة، والتصق بعضهم ببعض من شدة الاضطراب والخوف، لا يدرون لِمَ يبكي أبوهم؟ ولِمَ تولول أمهم؟ لكنهم من دون شعور بكوا لبكائهما، وسؤال حائر يدور في رؤوسهم الصغيرة: ألهذا الحد الجاموسة غالية عند والديهما؟ وماذا إن ماتت؟ وما معنى هذا كله؟ إنها مجرد جاموسة!لكن الواقع أن موتها يعني الكثير الكثير لو كانوا يعلمون! فالجاموسة المتوفاة هي أهم أفراد الأسرة- إن جاز اعتبارها كذلك- فهي مصدر رزقهم وقوتهم الوحيد، وهي البركة كلها، فمنها يأتي الحليب والجبن والسمن، وهي آلة الحرث للفدان الصغير الذي يملكونه ولا يكاد يسد إنتاجه رمقهم، بل حتى فضلاتها فيها الفائدة والمنفعة، فهي سماد طبيعي لأرضهم!وقد رحلت عنهم اليوم دون سابق إنذار، همدت الحركة فيها فجأة، وهي التي كانت قبل سويعات تسرح وتمرح في الحقل، تبدو عليها آثار الصحة والعافية، فيا لفجيعتهم الكبرى، ويا لمصيبتهم العظمى التي لم يحسبوا لها حساباً، وقد كانت الحياة هنيّة طيبة بحمد المولى وشكره وهي معهم، وستكون ضنكة سوداء سواد قلب العدو... بعد موتها!".مشهد مأساوي، شاهدته وتفكرت فيه، ثم قلت لنفسي: ما أشبهنا في هذا الوطن الصغير بهذا الفلاح وأسرته، نعم، ما أشبهنا بهم ونحن نعتاش على مصدر وحيد من الدخل، نحلب جاموستنا "الأرض" لنستخرج حليبها الأسود منذ أكثر من ستين عاماً، هانئين هناء الكسول بيومه، مطمئنين اطمئنان الجاهل بغده، لا نحسب حساباً ليوم يجف فيه ضرع هذه الأرض، لنجد أنفسنا كذلك الفلاح نندب حظنا، وقلة حيلتنا، وسوء تدبيرنا، مترحمين على أيام العز والنعمة... نولول كما ولولت صفية!أليس من العار أننا اليوم وبعد ستين عاماً من تصدير أول شحنة للنفط، لاتزال إيراداته تشكل أكثر من 90% من دخلنا القومي؟ أليس من العار أننا بعد كل هذه السنين لا يوجد لدينا اكتفاء ذاتي من أي نوع، لا زراعة، ولا صناعة، ولا سياحة، ولا مشاريع استثمارية ولا اجتذاب لرؤوس الأموال، ثم نتباهى بأننا نخصص جزءاً من أموالنا سنوياً لأجيالنا القادمة، كطفل يجمع النقود في الحصالة؟!مرحلة النفط التي نعيشها هي مرحلة مؤقتة في التاريخ قد لا تتكرر أبداً، إنها فرصة لالتقاط الأنفاس علينا استثمارها قبل أن يمضي الوقت، وهي سنون الخير التي تتبعها سنون عجاف لا يعلم مداها إلا الله!إن الدببة وهي حيوانات لا عقل لها، تدفعها غريزتها لتخزين الطعام، في معدتها طوال الصيف، لتتقي مجاعة الشتاء، ولتتمكن من تغذية صغارها من غائلة الجوع، فما أحوجنا لمثل هذه الغريزة التي ستجعلنا نفكر بجدية في الغد كي نضمن البقاء على قيد الحياة لأبنائنا وأحفادنا في المستقبل القريب!سنكون حمقى ومغفلين وأضحوكة التاريخ إن حسبنا أن هذا العز سيستمر إلى الأبد، وعلينا أن نقرأ صفحات الماضي لنتعلم من تاريخنا، وأن نسأل كل شعرة بيضاء في رؤوس الأجداد، وكل أخدود من تلك الأخاديد التي تحيط بعيونهم عن أيام الجوع والعطش، والبؤس والمرض، والقهر وضيق ذات اليد، لنعرف أن الدنيا لا تدوم حالها على حال... ولا تجامل ابن عم أو خال!علينا أن نتحرك سريعا لنجد البدائل قبل فوات الأوان، وأن نبدأ اليوم وليس غداً، فالوقت يمضي حثيثاً، ونحن نقترب من اللعب في الوقت الضائع، وعلى الأرجح لن يحتسب الحكم منه الكثير، وربما يجف الضرع بأسرع مما نتوقع، وتدير لنا الأرض ظهرها، ويتجاهلنا الحظ، وتموت الجاموسة في عز شبابها، لتولول صفية... ونولول جميعنا معها!***هذا المقال كتبته منذ 4 أعوام في مدونتي... وتذكرته قبل أيام وأنا أشاهد مؤشر "داو جونز" يهبط من خسارة 300 نقطة إلى 1000 نقطة خلال دقائق معدودة، وتذكرته وأنا أشاهد انهيار الاقتصاد اليوناني في أيام، وتساءلت: ما الذي سيحدث لنا إن انهارت أسعار النفط فجأة بظهور طاقة بديلة... هل حسبنا حساباً ليوم كهذا؟ وأجبت نفسي: لا أظن أبداً!
مقالات
سيجف الضرع يا صفية!
11-05-2010