من بين أسرار الاقتصاد القذرة أن "النظرية الاقتصادية" مجرد وهم لا وجود له، فلن نجد ببساطة أي مجموعة من المبادئ الأساسية التي نستطيع أن نؤسس عليها الحسابات التي قد تساعدنا في تغيير أحوال الاقتصاد العالمي الحقيقي إلى الأفضل، ويتعين علينا الآن أن نضع في الحسبان هذا القيد المفروض على المعرفة الاقتصادية بعد أن بلغ الدافع العالمي للتقشف المالي ذروته القصوى.

Ad

خلافاً لأهل الاقتصاد، فإن علماء الأحياء على سبيل المثال يعرفون أن كل خلية تقوم بوظيفتها وفقاً لتعليمات تصنيع البروتين المشفرة في حمضها النووي، ويبدأ الكيميائيون عملهم انطلاقاً مما تنبأنا به مبادئ هيسينبيرغ وباولي بالإضافة إلى الأبعاد الثلاثية للفضاء عن الترتيب الثابت للإلكترونات، ويبدأ الفيزيائيون عملهم استناداً إلى القوى الأساسية الأربع في الطبيعة.

أما خبراء الاقتصاد فلا يملكون أياً من ذلك، و"المبادئ الاقتصادية" التي تقوم عليها نظرياتهم مجرد احتيال، فهي ليست حقائق أساسية، بل مجرد أزرار نعبث بها ونؤلف بينها بحيث نخرج بالنتائج "الصحيحة" من تحاليلنا.

وتتوقف النتائج "الصحيحة" هنا على انتمائك إلى واحد من نمطين من أهل الاقتصاد، فالمنتمي إلى النمط الأول من خبراء الاقتصاد يختار لأسباب غير اقتصادية وغير علمية موقفاً اقتصادياً ومجموعة من الحلفاء السياسيين، ثم يعبث بافتراضاته ويديرها ويضبطها إلى أن تخرج له النتائج التي تناسب موقفه وتسر حلفاءه، ويستقي المنتمون إلى النمط الثاني مادتهم الأساسية من التاريخ، فيلقون بها إلى قِدر الطهي، ويرفعون حرارة النار، إلى أن تغلي محتويات القِدر على أمل أن يستخلصوا من المادة المطبوخة النهائية الدروس وأن تقترح عليهم هذه المادة المبادئ اللازمة لتوجيه الناخبين والبيروقراطيين والساسة في حضارتنا الحديثة نحو المدينة الفاضلة.

ومن غير المستغرب في اعتقادي أن يتبين لنا أن أهل النمط الثاني من خبراء الاقتصاد هم وحدهم القادرون على إنبائنا في النهاية بأي شيء مفيد. إذن ما الدروس التي يعلمنا إياها التاريخ عن ورطتنا الاقتصادية العالمية الحالية؟

في عام 1829، قدم لنا جون ستيوارت مِل القفزة الفكرية الرئيسة فيما يتصل بالتعرف على الكيفية التي يتعين علينا بها أن نكافح ما أطلق عليه "التُخمة العامة"، فقد رأى مِل أن زيادة الطلب على مجموعة معينة من الأصول في الأسواق المالية تقابلها في الجهة الأخرى زيادة في المعروض من السلع والخدمات في أسواق المنتجات، وهو ما يعمل بدوره على توليد زيادة في الطلب على العمالة في أسواق العمل.

وكانت الآثار المترتبة على ذلك واضحة، فإذا خففت الطلب الزائد على الأصول المالية، تكون بذلك قد نجحت أيضاً في علاج الزيادة في المعروض من السلع والخدمات (النقص في الطلب الكلي) والزيادة في المعروض من العمالة (البطالة الجماعية).

والآن هناك العديد من السبل لتخفيف الزيادة في الطلب على الأصول المالية، فحين تتركز الزيادة في الطلب على الأصول السائلة المستخدمة كوسيلة للسداد- "النقود"- فإن الاستجابة الطبيعية تتلخص في حمل البنك المركزي على شراء السندات الحكومية في مقابل المال النقدي، وبالتالي يزيد المخزون من المال ويعود العرض إلى التوازن مع الطلب، ونحن نطلق على هذه الاستجابة "السياسة النقدية".

وحين تتركز الزيادة في الطلب على الأصول الأطول أمدا- السندات التي تخدم كأداة لتعزيز المدخرات التي تعمل بالتالي على نقل القوة الشرائية من الحاضر إلى المستقبل- فإن الاستجابة الطبيعية تتألف من شِقين: حث الشركات على المزيد من الاقتراض لبناء المزيد من القدرة، وتشجيع الحكومة على الاقتراض والإنفاق، وبالتالي إعادة المعروض من السندات إلى التوازن مع الطلب. ونحن نطلق على الشق الأول من هذه الاستجابة "استعادة الثقة"، والشق الثاني "السياسة المالية".

وحين يزيد الطلب على الأصول ذات الجودة العالية- الأماكن التي يمكنك أن تخزن فيها ثروتك وتطمئن إلى أنها سوف تظل هناك حين تعود إليها- فإن الاستجابة الطبيعية تتلخص في حمل الحكومات التي تتمتع بالجدارة الائتمانية على ضمان بعض الأصول الخاصة وشراء غيرها، ثم مبادلتها بالتزاماتها وديونها الخاصة، وبالتالي يتضاءل المعروض من الأصول الخطرة ويزيد المعروض من الأصول الآمنة. ونحن نطلق على هذه الاستجابة "السياسة المصرفية".

بطبيعة الحال، لن نجد في العالم الحقيقي سياسة تندرج تماماً تحت أي من هذه الأنماط المثالية المذكورة آنفا، ففي الوقت الحالي يخشى البنك المركزي الأوروبي أن يقودنا استمرار السياسة المالية التوسعية إلى نتائج عكسية. صحيح أن البنك يزعم أن حمل الحكومات على إنفاق المزيد من المال والاستمرار في تسجيل العجز الضخم من شأنه أن يؤدي إلى زيادة المعروض من السندات، وبالتالي تخفيف الزيادة في الطلب على الأصول الأطول أجلا، ولكن إذا تجاوزت إصدارات الحكومة من الديون قدرتها على استيعاب الدين، فإن هذا يعني أن كل ديون هذه الحكومة سوف تتحول إلى ديون خطرة. وهذا يعني أن الحكومة نجحت في تخفيف النقص في الأصول الأطول أمداً من خلال خلق عجز في الأصول العالية الجودة، ولكنها بذلك أصبحت في وضع أسوأ مما كانت عليه من قبل.

يؤكد القائمون على البنك المركزي الأوروبي أن القوى الاقتصادية الرئيسة في نصف الكرة الأرضية الشمالي- ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، واليابان- أصبحت الآن عند نقطة تجعلها مضطرة إلى خفض الإنفاق المالي والتقشف السريع، وذلك لأن ثقة الأسواق المالية في جودة ديونها أصبحت مهزوزة، وقد تنهار في أي لحظة. وينضم إليهم في هذا الرأي صناع القرار السياسي والمشرعون: ففي أواخر يوليو قال بيتر أورزاغ، مدير مكتب الولايات المتحدة للإدارة والميزانية، إن التعزيز المالي القادم في الولايات المتحدة على مدى الأعوام الثلاثة المقبلة سيكون بمنزلة الخفض الأعمق للإنفاق في البلاد منذ ستين عاما.

أجل، إنني أرى صورة مختلفة تمام الاختلاف حين أنظر إلى الاقتصادي العالمي؛ صورة حيث من المؤكد بما لا يدع أي مجال للشك أن ثقة الأسواق في جودة ديون والتزامات حكومات بلدان نصف الكرة الأرضية الشمالي ليست على وشك الانهيار. وأرى الإنتاج أدنى من طاقته الحقيقية بمقدار 10%، وأرى معدلات البطالة تقترب من %10، والأهم من ذلك فيما يتصل بالسياسة الاقتصادية في الأمد القريب، فأنا أرى العالم حيث يتحلى المستثمرون بقدر هائل من الثقة بديون حكومات القوى الاقتصادية الرئيسية، والتي تمثل بالنسبة للعديد من الناس المرفأ الوحيد الآمن من هذه العاصفة.

وأظن أننا في ظل هذه الظروف نستطيع أن نجزم بما كان جون ستيوارت مِل ليوصينا به.

* جايمس برادفورد ديلونغ | James Bradford DeLong، مساعد وزير الخزانة الأسبق في الولايات المتحدة، وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، وباحث مشارك لدى المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»