الشعر مصباح الداخل، فلا شيء مثله قادر على كشف الذات البشرية، فالرواية والمسرح لا تكشف ذات صاحبها، فغالباً ما تكون خاضعة لمعايير العمل الفني ومتطلباته، أما الشعر، وأعني به الشعر الصادق والعالي في قيمته، فهو مفتاح الشخصية، ومرآة الروح، وهو ما يقود إلى محبة الشاعر وإلى تصديق ما قاله، وما كتبه في ديوانه.

Ad

ومن هذا الشعر الجميل ديوان الشاعر أحمد المنشاوي «روح شاغرة تكفي لفراشة» الذي اكتشفته وعرفته من هذا الديوان، بالرغم من أنني أعرفه منذ بدايتي في الكتابة، إذ جاءني أحمد لإجراء مقابلة معي لمجلة اليقظة التي كان يعمل فيها حينذاك، وربما التقينا بعد ذلك، ثم انقطعت أخباره، وظننت أنه قد عاد إلى مصر، وفجأة ظهر على شاشة الإنترنت، وفرحت بوجوده بيننا بعد هذا الانقطاع الطويل، وبعدها وصل إلي ديوانه على الإنترنت، وحين قرأته شعرت بالكسوف من نفسي، لأنني لم أعرف أحمد معرفة جيدة، وظللت على تلك المعرفة السطحية، وإن كان انطباعي عنه منذ اللقاء الأول، أنه إنسان خلوق، مهذب، خجول، وذو إحساس إنساني دافئ.

وجاء ديوانه ليعرّفني به أكثر وليكشف لي عن أعماق هذا الشاعر المرهف، وعن هذه الأحاسيس العميقة والملتقطة لكل ما يرف من حوله وبكل ما يتمرأى فيه.

في ديوان أحمد تشعر بزمن جميل، وبالذات في مصر تلك التي كانت أيام زمن عبدالحليم حافظ، وأفلام الأسود والأبيض، وتشعر بملامسة نسيم النيل، وغبش فجر القاهرة الندي، وعرق الشوارع، ودفء المشاعر، وبروح ذاك العصر... لا أدري لماذا ديوانه أثار بي كل هذه المشاعر المختلطة التي أعادتني إلى ذاك الزمن الجميل بالرغم من حزن شعره، وبأنه أهدى ديوانه لزمن عبدالحليم، فروح القصائد كلها تحيل إلى ذاك العصر، ولا أدري هل هي طريقة تناوله للموضوعات، وأسلوبه الشعري الذي أحالني إلى روح صلاح جاهين وإلى شعراء ذاك الوقت، أم أنه اختزن زمنهم في قصائده؟

شعر أحمد يغمر الروح بأحاسيس فياضة بالشجن حتى تغرق القارئ في وجده وشجنه وتتركه معلقاً في وجدان ذاك الزمن المطمور في لا وعيه، شعر بتنا نشتاق إليه وإلى ما كنا نهرب منه، وبتنا نحنّ إليه من بؤس ما وصلنا إليه.

وإن كان معظم الشعر الآن لا يُقرأ إلا أن ديوان «روح شاغرة تكفي لفراشة» برهن على أنه ما زال هناك شعر جميل يُقرأ ويهز الوجدان وُيبهج الروح، أنا شخصياً استمتعت بقراءته وخزنته في موبايلي حتى أطلع عليه في أوقات الانتظار، وتتحرك في تلك الأحاسيس الغامضة من جديد. وهذه مقتطفات تكشف حساسية هذا الشاعر الخجول الذي أتمنى لديوانه كل النجاح وكل التألق لأنه بالفعل يستحقه.

* (ترتدين أمسية تضاء بعطرك / يتجلى ما يطرق باب خجلي / فأتخفى في مراوغاتي /كما حقل من البنفسج يغامر/ على كراسة الفرح / أنا عابر السبيل المحمل بأهازيجي/ في مدن/ تتوجس بالغريب/ يا سيدتي هنا رجل تهزمه حكاياته / يرتبك من المشاعر القديمة / يتقدمه تاريخ مهدر/ كتبه / نوايا الأحلام / يخاف من فرس / تركض في عينيك / تشن غارات أنوثتها على معاقل الغرام / تقتحم بيوت الرمال / أنا وأزمة منتصف العشق / كلانا في وجع البعاد).

* (يخلع عنه غباره / يتخلص من بهائه / يرتدي / عمره بأناقة / يرحل في شخصية عطره /في منتصف الروح / يتقدم خطوة / يشطف في الظل خياله / يتذكر/ أن يكظم في جيبه / رائحة الليمون).

* (تسرب من بين يدي ليل وحيد / مرفأ لطفلين / وجرحا من مشاعر الخريف / أهب للأول ضمير زهرة / وللآخر ما يقبل القسمة / على عاشقين / وإذا للحزن قاطع طريق).

* (ليه يا بنفسج / تزرع في قلب الغيم سرك / الشجن لك وحدك / وضفاير همسك / تسرح على ضهر النهار/ تسوق طراطيف البعاد).