خلال فترة الغزو انقلبت أحوالنا رأساً على عقب، وتحولنا إلى مهنٍ لم نكُن نعرفها. كنا على ثقة بأن الكويت ستعود ولكن لم نكُن نعرف متى. سلطات الاحتلال من جانبها كانت تسعى إلى إيهامنا بالعكس فغيَّرت أسماء المناطق والشوارع والمستشفيات وأصرَّت على تغيير اللوحات المعدنية للسيارات، بل إنها ظلَّت تصرُّ على أن ما حدث في الكويت لم يكُن إلّا ثورةً قادها فتية آمنوا بربهم واستنجدوا بـ"صلاح الدين"، الذي لبَّى نداء الواجب ومن ثم أعلن الوحدة لإنقاذ البلد المسكين من طغمته الحاكمة.

Ad

كان ذلك من المضحكات المبكيات التي أطلَّت علينا أياماً، لكن تلك الرواية الساخرة كما رواها صدام وجماعته كانت مبكية عندما قرأتها في أكثر من رسالة دكتوراه بجامعة القاهرة، وظل يردد أجزاء منها الكاتب محمد حسنين هيكل، وتعتمدها بعض الدراسات المتهافتة كمصدر موثوق، وهو ليس كذلك على الإطلاق، فربما تحوَّل من كاتب إلى كاذب.

عندما نظمنا رحلات أهالي الأسرى، كنا نتوجه إلى بغداد في عدة باصات ملأى بعدد كبير من الأطفال والنساء والرجال، كباراً وصغاراً، وفي إحدى المرات استوقفنا ضابط على نقطة سيطرة بعد الجهراء بقليل، فالباصات التي كنا نستأجرها من قرب دوّار العظام، أبو العظام، كانت في الأساس مخصصة للجنود، يستقلونها خلال إجازاتهم، لذا كان منظر الباصات وفيها عوائل وعلى شكل موكب أو حملة، مثيراً لاستغراب الضابط، فطلب من سائق الباص أبو علي أن ينزل، وبحكم مسؤوليتي عن الحملة نزلت معه للاطمئنان على عدم وجود شائبة، فدار الحوار التالي بين الضابط والسائق أبو علي:

• الضابط: هاي شنو؟

• أبو علي: مثل ما أنت شايف، منشآت "المنشأة في العراق تعني باص".

• الضابط: أشوفها منشآت، ماني أعمى، بس شنوهاي نسوان وجهال، وين رايحين؟

• أبو علي: هاي على مود الأسرى، أهلهم يزورونهم.

• الضابط: يا أسرى؟

• أبو علي: الأسرى الكويتيون في بعقوبة وغيرها.

• الضابط "مقاطعاً بحدة": منين جبت هالكلاوات "كلام فاضي" إحنا ما عندنا أسرى.

• أبو علي: لعد شنو عدنا.

• الضابط: عدنا ضيوف ممكن، بعدين هسه صارت وحدة يعني ماكو شي اسمه أسرى، قول محتجزين.

• أبو علي: آني أريد أفهم، قبل الثاني من آب مو كان في دولة اسمها الكويت، جينا إحنا يا عراق وأخذنا ولدهم العسكريين وحطيناهم بالسجن، حسب فهمي المحدود هاي نسميهم أسرى، إن شاء الله القيادة بالمستقبل تبلغنا بالتعديلات وإحنا رهن الإشارة، فهسه شنو تعليمات القيادة بهالخصوص شنو نسمّيهم؟

• الضابط: "أدركته الحيرة فرد باستعجال": يلّا روح، ولِّي، لا تعيدها مرة ثانية.

ركضنا أبو علي وأنا إلى الباص، وعندما بدأنا التحرك قال لي أبو علي: ها شرايك فيني، لخبطته، بس آني ما أعرف هو الضابط يوم قال لا تعيدها شنو كان يقصد.

لم يكُن ذلك مهماً فقد انطلقنا في الطريق إلى أسرانا، وعدناها بعد تلك الحادثة مرات ومرات.

كنا نقيم في فندق الرشيد ببغداد، إذ نصل مساءً بعد رحلة طويلة ونذهب لزيارة الأسرى في الصباح بعد استخراج التصاريح اللازمة من مقر ضحايا الحرب في الأعظمية. كانت الإشكالية في المرات الأولى تبدأ عند تسجيل المعلومات عند استقبال الفندق، فهناك خانة تُكتَب فيها الجنسية. في المرة الأولى لاحظت موظفة الاستقبال توقُّفي عند تلك الخانة فعلَّقت "عوفها"، أي اتركها، وفعلاً تركتها خالية، أما المرة الثانية فقد كان موظف الاستقبال أكثر مبادرة وخيالاً عندما لاحظ عدم رغبتي في الكتابة، فقال: "أشوفك محتار شنو تكتب، اكتب عراقي جديد"، ضحكنا سوياً على الفكرة وتركنا الخانة فارغة. أما في المرات اللاحقة والتي بدأنا فيها ملء البيانات جماعياً، فكتبنا أمام خانة الجنسية كويتي وكانت هذه هي الحقيقة.

هناك الكثير من تلك المواقف التي لا تنتهي من نوع المضحك المبكي، ولعلنا نعود إليها يوماً ما.