ربما هدأت النفوس وبردت القلوب بعض الشيء على خلفية تصريحات أحد المشايخ في المملكة العربية السعودية الاستفزازية والمسيئة لأبرز المراجع العظام آية الله السيد علي السيستاني، وكذلك التعرض المباشر لطائفة الشيعة على العموم، ولعل ردود الفعل السنية خصوصا من قبل كبار علماء المملكة تحديداً، وفي مقدمتهم الشيخ العبيكان والموقف الرسمي السعودي إضافة إلى العديد من الكتّاب المحليين قد نزعت فتيل الفتنة المذهبية بشكل سريع هذه المرة، وحال دون تفاهم التصعيد الإعلامي وحرب المقالات و"المسجات" والمنتديات التي مازالت بعض جيوبها نشطة لحد الآن مع الأسف الشديد.

Ad

وحادثة التصريحات الأخيرة ضد السيد السيستاني، ورغم عظيم قبحها في البعدين الديني والسياسي، وكذلك ردود الفعل تجاهها أوضحت جملة من الحقائق التي بالإمكان استثمارها في الطريق الصحيح للتعامل مع بؤر الفتن المستقبلية، فاستقصاد سماحة السيد بحد ذاته كان نقطة الضعف الرئيسة في تلك التصريحات نظراً لما يتمتع به الإمام السيستاني من هيبة واحترام ووقار فرضتها شخصيته المتسامحة ومقامه الديني وفتاواه ومواقفه السياسة العديدة، وفي ذروة الاحتقان الطائفي وصولاً إلى إراقة الدماء في العراق، وتحريمه الجازم لأي نوع من الاستدراج في الفتنة المذهبية، ولذلك لم تكن بضع كلمات شاذة ومفتعلة لتنال من مقامه.

أما ردود الفعل العاطفية من قبل محبيه ومقلديه فقد التزمت إلى حد كبير بأخلاقيات السيد نفسه، وتوّجتها تصريحات العبيكان وكتّاب الرأي من إخواننا السنّة بلسماً شافياً يجب أن نقدرها بالثناء والاحترام، إذ سجّلت بالفعل أجمل المعاني في الدفاع عن السيد السيستاني، كما يجب أن يكون لنا الموقف ذاته في حال تطاول حتى أبناء الشيعة على رموز إخواننا من أهل السنّة، فهذا هو عين المنطق والأخلاق لاحتواء الكثير من محولات اختلاق الفتن والتناحر.

فالتجربة الأخيرة وكما العديد من المناسبات السابقة بينت أن إشعال نار الفتن بالكلام الجارح أو الإساءة المتعمدة، رغم أنها تهيمن على العواطف وتجيشها وتنجح في خلق الاصطفاف المتعصب فإن ألهبة تلك النار تبدأ بالتراجع والضمور مع مرور الوقت، ولكن بعد أن تترك جراحات عميقة، ولكن صبّ الماء على تلك النار فوراً من شأنه أن يخمد تلك الآثار سريعاً.

ولذلك أيضاً يمكن لمثل هذا التدخل الفوري أن يوصل رسالة مفادها أن الغاية من خلق الفتن خصوصاً من قبل أصحاب النفوس المريضة من المتطرفين تحديداً لا يمكن أن يكون مفتاحاً للسيطرة على الساحة والتحكم بعواطف ومشاعر الناس على الدوام، وأن الرهان على هذا السوق سوف يكون رهاناً خاسراً، ولا تدوم فيها منابر الصعود نحو النجومية والبطولات الوهمية لأنها سوف تتهاوى سريعاً، فعموم الناس البسطاء ليسوا على استعداد للركض والحشد وراء كل من هب ودب بمجرد بضع كلمات بذيئة وجارحة، ولها من همومها اليومية ومشاكلها الحياتية وتحدياتها المستقبلية ما يحتم علينا أن نتقي الله فيهم، فمعتقدات كل إنسان وفكره وإيمانه بالتأكيد قد رسخت بمبادئ لها جذور عميقة لا يمكن أن تتزعزع أو تتغير بفعل تصريح أو بيان أو مقال، ولهذا فإن أقصى ما تستطيع مثل هذه الاستفزازات والتحرشات وجنون العظمة أن تفعله هو تحريك روح البغض والكراهية المتبادلة وبشكل مؤقت، وسرعان ما تجرفها متطلبات الحياة الطبيعية وحاجتنا إلى بعضنا بعضا ومصائرنا المشتركة والحتمية.