أنا مدين باعتذار كبير للمفكر المصري الراحل سلامة موسى. أما موجب الدين فهو ابتسامة ساخرة تسلقت شفتي، ذات يوم، بسبب نبوءة أطلقها منذ زمن بعيد، فوجدتها، لفرط جهالتي، عصيّة على البلع. كان ذلك منذ 30 عاماً تقريباً، حين وقع في يدي كتاب له صغير حائل الورق، عنوانه «الدنيا بعد ثلاثين عاماً»، وإذ أُخذت بإغراء العنوان، شرعت حالاً في تقطيع ملزماته المتلاصقة، وبدأت أقرأ.

Ad

لا أتذكر تاريخ صدور الكتاب تحديداً، وأظن أنه مطلع الأربعينات أو منتصفها، ولما كنت أعيش فترة أواخر السبعينات، فقد بدا لي أنني سأحظى بالتسكع في أزقة الطرافة كلها، وفوق هذا سأسمع بأذني، حكم قاضي الأيام، وما يزيد الأمر طرافة أنني سأشارك شخصياً في الإدلاء بأقوالي من على منصة الشهود... ذلك لأن الزمن المفترض لتحقق النبوءات هو زمني أنا.

غالبية نبوءات الكتاب تبخرت من ذهني على مر الأيام، لا جزى الله الأنظمة الماضية خيراً، لكن واحدة منها عادت إليّ أخيراً بفضل أنظمة أخرى، لا جزاها الله خيراً هي أيضاً، لتصرخ في وجهي غاضبة: «إن واجبك الآن الاعتذار من روح المرحوم».

وها أنا أعتذر.

يد ساحرة

عندما قرأت كتاب سلامة موسى، كنت أعرف سلفاً أنه مغرم جداً ببريطانيا العظمى، ومؤمن جداً بقدرة يدها الساحرة على تحويل التراب إلى ذهب. لذلك أثار غيظي أن نبوءاته عامة، وفي المجالات العلمية خصوصاً، كادت تقتصر على الإنكليز. أما وقد بلغ حد التنبؤ تحويلهم روث البقر إلى طاقة، فقد نفدت مني طاقة الاحتمال، ووجدتني أهتف به عالياً: «حدك يا أستاذ... هذا كثير... علاقة «الروث» بهذا السوبرمان لن تتعدى سجائر «روثمان» . والدليل ماثل أمامي، فها هم أصحابك، ومن فوقهم الأميركان، يمتصون بلا هوادة، ضروع آبارنا، ويمتصون مع النفط سجايانا الطيبة، ويطالبوننا بتعويض عن جهدهم في الامتصاص... والمشكلة، يا سيدي أنهم بحسب تقديرات المخزون سيظلون جاثمين على صدورنا لعشرات مقبلة من السنين، فدعني إذاً أمدّد موعد تحقق النبوءة، فأفتح عصر الروث بعد 50 عاماً أو أكثر، ساعة يبدأ شح النفط أو نضوبه. بذلك سأواسي نفسي المتطلبة بأننا سنسترجع سجايانا، ولا يهم بعد ذلك أن نكون فقراء، المهم أن نعود إلينا ونطفئ شوقنا لأنفسنا بعد فراق طويل.

وإذ كنت أسرح في سهوب الأمل المرتقب، فوجئت بخبر جلف يشدني من أذني منكراً عليّ التجديف، وداعياً إياي للاستقامة على منهج الذلة المطلقة.

بشّرني الخبر بالتقدم الهائل في تجارب استخلاص الطاقة الشمسية حتى أن عاملاً يابانياً درع بيته بصفائح التخزين واستسلم للراحة، فيما راحت حصالته تلهث تحت وطأة ابتلاع المال من الحكومة التي تشتري منه ما ينتجه من طاقة!

عندئذ قلت في نفسي: «واحسرتاه. ها هم يركلون آمالنا إلى الأمام بضعة قرون أخرى فأين الشمس الطافحة بالعافية إذا لم تكن هي هذه التي تتولى منذ الأزل تحميص جوعنا؟ وأين تكون الطاقة إذا لم تكن هنا حيث يقلى البيض تحت عباءة الظل الوارف؟» .

الروث يبتعد يا أستاذ سلامة، من أعلى ومن أسفل، لن يجدوا وقتاً لتعلم العربية، لذا فإنهم لن يفهموا قولنا إن «في الحركة بركة» .

ومضت الأيام سارية على بهجة النكد، فكلما ضاق الأمل بالروث اتسعت ابتسامتي أكثر. غير أنني، في مطلع الألفية الثالثة، ضبطت ابتسامتي وهي في حالة شروع بالبكاء، فصفقت بيدي، وأيقنت أن ساعة الخلاص دنت، وسرعان ما عرفت أن البريطانيين، ولا أدري لماذا، قرروا ردّ الاعتبار إلى الأستاذ سلامة، إذ اعتزموا بصورة مؤكدة أن يستخلصوا الطاقة الكهربائية من روث الحيوانات.

عندئذ زغردت روحي: «إلى الجحيم بابتسامات السخرية كافة، وليأت عبوس الدنيا كله ما دام مطيّة لعروس الأمل» .

وجدت المسافة تتقلص، فعما قريب لن يكون نفطنا ولن تكون شمسنا صنفين من الحبال الغليظة التي تربط الغربيين بشدة إلى صدورنا... وحتى إذا لم يقوموا عنّا تماماً، ثمة أمل في أن يتحركوا بين ساعة وأخرى، فيتاح لنا أن نجذب نفساً في كل مرحلة انتقالية.

ولم أكد أبلل بؤس روحي برذاذ الفرحة، حتى أقبل من تايلند خبر ملتهب يسعى، فأشعل انطفائي، وحوّلني إلى بقايا شباك محترق، وكأنني حرف تايلندي!

ماذا جرى؟ التايلنديون، يا سيّدي، نجحوا في الحصول على غاز حيوي من فضلات الخنازير، وها هو رئيس مكتب سياسة الطاقة لديهم يفرك يديه ويتلمظ قائلاً: «خطوتنا التالية تتمثل في محاولة اختبار هذا على البشر، وللحصول على غاز حيوي من فضلات البشر نحتاج إلى مكان يعيش فيه كثيرون معاً، وأيّ سجن في بانكوك هو المكان الأمثل» .

أهلاً... أهلاً... يبدو أن خيبتنا ملتصقة على جباهنا بالقار. فها هم، بعد النفط والشمس، يتبعوننا الى ما وراء الشمس.

أكاد أحلف أن معظم زعماء العالم الثالث لم ينم عند وصول الخبر إلى مسامعه.

صحيح أن هؤلاء الزعماء لا ينامون في الأصل فـ« أنت وأنا نعلم أنهم يسهرون على راحتنا» . لكنهم، هذه المرة، لم يناموا من فرط الانشراح

فأين تكون السجون المكتظة. إذا لم تكن في عالمنا الثالث؟ أين؟!

ويا أستاذ سلامة... أنت تنبأت وصدقت، وأنا سخرت واعتذرت. لكن لدي رغبة في أن ألومك: لماذا جئت بسيرة القط؟ أما كان من الأفضل أن تتركهم غافلين؟

ولدي رغبة أخرى في أن أطلق هذه النبوءة: «بعد 70 عاماً أو أكثر، سوف ينتشر المخبرون بكثافة عاتية في جميع بلدان العالم الثالث، وكأنهم أنفسهم الآن. لكنهم سيدوّخون الشوارع حينذاك، وهم يدورون صائحين كالدراويش: «اشتمووا الحكومة... اشتموا الحكومة يرحمكم الله. اكشفوا عورة الحكومة أيّها الصالحون. عيّروها ولو بعيب واحد من عيوبها المليون. أيّها المواطنون... خلقكم الله أحراراً، فمارسوا حريتكم ولو بما يكفي لثلاثة أشهر خلف القضبان، السكوت على المظالم كفر... فامسحوا عرض زعيمكم بالأرض أيها الطيبون. هياّ هيّا، إن ثروة بلادكم أمانة في أعناق مؤخراتكم» .

وليقيني بأن أحداً لن يشتم الحكومة، نكاية بها، فإنني أتنبّأ بأن تتصدر القوانين مادة جديدة تقضي بإعدام كل من لم يسبق له دخول السجن، ذلك بتهمة الخيانة العظمى!