بات من الواضح تماما عجز النقد الأدبي عن مجاراة الطفرة الحالية في مستوى الإنتاج الروائي النامي باضطراد مدهش على كل الصعد، سواء كانت على كمية المنتج المذهل، أو على شكل وأسلوب كتابة الرواية المتغير باستمرار، والجانح إلى المغامرات المفتوحة على الحداثة وعلى التجريب، وفي المقابل نجد أن النقد الأدبي مازال يدور في محلك سر، توقفت أدواته عند حدود الرواية التقليدية ولم تتقدم عنها، وعجز النقد الحالي عن مجاراة جموح الرواية القافز إلى عالم التجريب والحداثة المجهول، والمخلف وراءه نقدا ونقادا عاجزين أو غير قادرين على هتك مغاليق ومفاصل جسد الرواية الجديد.
لهذا أصبح النقد بالفعل في حالة متخلفة تماما عن متابعة وملاحقة الشكل الروائي الجديد، وبات النقاد في واد والنص الجديد في واد آخر، فإما أن يغضوا النظر عنه تماما، ويكنون في صمت قواقعهم المعزول عن ضجيج الحياة الهادر، أو يحاولوا أن يدجنوا الرواية بتطويعها، وبإذعانها، وبتقزيمها، وبتفصيلها على حسب مقاسات أوزانهم وشروطهم، فهذا هو الموجود والمقسوم، وعليها أن تنحشر فيه وأن تتقبله.والناتج بالطبع نقد غير مفهوم، مختلف في قياساته تمام الاختلاف عن معنى وتوجه الرواية، وإدراك حداثة تقنياتها.فمثلا حين يطبق الناقد الفروقات ما بين الرؤية الشعرية، والرؤية الموضوعية على نص حداثي هارب من الرؤية الموضوعية عن قصد وعن تعمد، لأن النص يدور في مسار وأفق مختلف عما يدور فيه النص التقليدي، وفيه نقاط معينة يريد أن يشتغل عليها مؤلف النص ويبغي فيها الوصول إلى نتائج فنية مختلفة عما هو سائد في النصوص التقليدية، ولو سارت كل الروايات على هذا المسار الثابت والمفروض لما كان هناك أية قفزة مستقبلية في الحداثة، وفي الوصول إلى ينابيع فنية جديدة ، ولولا هذه الكتابات التجريبية لما حدث كل هذا التطور في فن الرواية، وفي تعددها وتنوعها، ولبقيت دائرة ومربوطة في رؤيتها الموضوعية إلى أبد الآبدين.كذلك حين يضع الناقد الفيتو على النص الروائي ويحكم عليه بهذه الرؤية الشعرية والرؤية الموضوعية، بحيث يرى أن رؤية الشاعر ذاتية فبالتالي لا تصلح للرواية، لأن الرواية التقليدية ينصب جل همها على الرؤية الموضوعية، وبناء النص والشخصيات طبقا لقياس أسس مطلوبة في بنائها، وليس للأحاسيس الذاتية للشاعر، وهذا القياس عفى عليه الزمن، وتخطته الحداثة بمسارات ضوئية، فالرؤية الذاتية للعالم اليوم هي من صلب الأعمال الروائية، وهدم الحاجز ما بين الواقعي والمتخيل قد تجاوزته الرواية منذ زمن بعيد، وأصبح الإيغال في الإيهام والمتخيل وإدخاله في الواقعي من أهم اللعب الفنية، وأجدرها، وأكثرها سحرية، وفنتازيا ومتعة، وإلا ماذا يقول الناقد عن رواية «الهاخاديتو» لميغيل انجل استورياس، الحائز جائزة نوبل، وجائزة لينن وغيرها من الجوائز، حيث الزمان والمكان والشخصيات والأحداث كلها موغلة في الإيهام وكسر الحواجز كلها في ما بين الواقعي والمتخيل، كلها تدور في سديم شعري، وعالم شبحي، ضبابي لا يكاد يُلمس منه شيء، مجرد مشاعر وأحاسيس تنقط على روح القارئ فتبهجه أو تحزنه.وهذه هي عظمة التجريب والبحث الفني الذي يصل إلى ينابيع لم يصلها أحد من قبل، وهناك روائيون عظماء تجلت عظمتهم في تكسير المتحجر والثابت، لذا منحونا كل تلك الروايات الخالدة وغير العادية، والتي ثبتت إيماني ويقيني في صحة طريقي ومنهجي السائر ضد كل ما هو متحجر وكل ما هو متصلب في رسن ثابت.
توابل
فيتو الناقد
17-05-2010