تعلو الشعارات الرثة وتصيح الأبواق المهترئة "نبيها هيبة"!... يريدونها هيبة تحل فيها يد أمن الدولة "الحديدية" محل الخيزرانة في زمانها... فأمن الدولة والخيزرانة وجهان لعملة واحدة، يضرب بهما كل من تسول له نفسه أن ينتقد أو يعارض أو يختلف... ندور نحن عكس عقارب الساعة وعكس اتجاه دوران الأرض... لتصبح ثقافة الترهيب والتخويف هي ثقافة الهيبة المنشودة... يريدونها هيبة في زمن يسود فيه الاعتباط والعشوائية والمزاجية في تطبيق القانون... لا يهم احترام العقد الاجتماعي الذي تستمد منه الدولة والمجتمع والمواطنون شرعيتهم وحرياتهم على حد السواء... يريدونها هيبة رغم الفساد القابع في كل الزوايا... رغم الغرق في مستنقعات الركود... رغم التسيب اللامحدود... والتسامح مع أعداء الحرية والعجز عن ردعهم بقوة القانون، "فالحرية الشخصية" يكفلها الدستور (أبو القوانين)، ولكن الاستبداد السياسي يأبى إلا أن يتواطأ مع الاستبداد الديني والاجتماعي في وأد الحرية... وبين التراخي في تطبيق مواد الدستور والتعسف في قمع المعارضين... ضاعت الهيبة.

Ad

نحن أيضا نريدها هيبة، ولكنها تختلف عن هيبة "اليد الحديدية" لأمن الدولة التي عفا عليها الزمن وحل محلها هيبة القوة اللينة وهي قوة "الأمن الإنساني"... تلك الفلسفة الحديثة التي تطورت بعد فشل المفهوم "الحديدي" الصدئ لأمن الدولة... هيبة تهتم بالحكم الرشيد والمواطنة الصالحة، وتفصل بين السلطات وتمنع الطغيان... هيبة تعزز الشفافية وتكافؤ الفرص وتحمي الحريات وتردع من يتعدى على حريات الآخرين وحقوقهم... هيبة يحل فيها حكم القانون محل الطائفة والقبيلة، ويتساوى فيها الجميع أمام القانون الذي لا يسمح لأحد أن يصنف نفسه "معزباً" (كما أسهب أستاذي حسن العيسى في مقاله الأخير)... هيبة تحترم المواطنين وقيم المواطنة ولا تسمح بهش العصا الغليظة التي يفزع منها "القطيع"... هيبة تردع المتنفذين عن الترهيب والتخويف... والتهديد بالقتل! ويهابها القوي قبل الضعيف، والفقير قبل الغني والرئيس قبل المرؤوس.

وها هو تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2009 يقر بأن سبب فشل التنمية في الدول العربية هو غياب مفهوم "الأمن الإنساني"، فلم تجلب سياسة القمع والجبروت لها الاستقرار أو الازدهار.. بل كانت سبباً في ترهلها واضطرابها... بينما تلك الدول التي تعتمد فلسفة "الأمن الإنساني"، صنفت في تقرير "مؤسسة ميرسر" لعام 2010 (وهي أكبر هيئة استشارية في مجال الموارد البشرية في العالم) كأفضل المدن في مستويات المعيشة في العالم (التي احتلت فيها المدن الأوروبية موقع الصدارة)، وهي مدن واثقة بنفسها لا تخشى النقد اللاذع، ولا تهاب المعارضة الشرسة، ولا ترتاب من حرياتها الواسعة، ولا تخاف حرية التعبير والتفكير، ولا تتعسف من أجل تطويع الناس، ولا تضطرب نفسياً من أي تجمع أو حشد شعبي أو نشاط ثقافي... بل تعمل بعزم على تحرير الإنسان فيها من التهديدات الشخصية والبيئية والصحية والاقتصادية والاجتماعية، ففرضت هيبتها باحترام أمنها الإنساني... وهكذا أصبح المفهوم الحديث لأمن الدولة يبدأ بالإنسان... لا العكس.

فمن الأحرى والأجدى والأولى أن يراقَب ويحاسَب مَن ينال مِن هيبة دولة المؤسسات والقانون وينتهك أمنها الإنساني من المسؤولين، بدلاً من أن يعاقَب ويؤدَّب مَن ينتقد هيبتها المزعومة مِن أصحاب الرأي!