لماذا يهرب كثير منّا إلى الماضي عندما يُطبِق عليه الحاضر بكلتا يديه بغية خنقه؟!

Ad

لماذا لا نهرب إلى الغد؟!

لماذا تمتلئ خزانة الذاكرة بثياب الأمس، حتى إن كانت هذه الثياب مجرد خِرق بالية وأسمال عبثت بها «العثة»، بينما تكاد تخلو خزانة الخيال من ثياب الغد التي ستكسو عري هذا الخيال بالجديد؟!

يحاصرنا الماضي دائماً، نكذب على أنفسنا عندما ندّعي الهروب منه، بينما نحن نفرّ إليه لنرتمي في أحضانه كما ترتمي قططنا الأليفة بين أيدينا، يمارس سلطته علينا ونحن مستسلمون بكل خنوع له، نتلذذ بساديّته التي يجلدنا بها، حتى إن تظاهرنا بالرفض وعدم الرضا!

نحن لا نسجن ذواتنا بالماضي، لأن الماضي جميل بالضرورة، قد يكون الماضي الذي نغرق فيه مؤذيا، وقاسيا، ولربما أسال سحب الملح في أعيننا عندما كان وقتها حاضرا، ولربما حاولنا الهروب منه إلى ما كان ماضيا بالنسبة إليه، لكننا نهرب إليه بعد أن يصبح هو ماضيا.

قيل قديما:

رب يوم بكيت فيه فلمّا

أصبحت في غيره بكيت عليه!

لعبة أزلية نمارسها، تثير شفقتنا على أنفسنا، وتجعلنا نرثي لتعاسة حالنا، وتجعلنا نتساءل: لماذا نفعل ذلك؟!

لماذا لا نهرب إلى الأمام؟!

لماذا لا تأخذنا خطواتنا إلى الغد؟!

حتى حين نظن أننا نفعل ذلك نجد الأمس أمامنا، مُخرِجاً لسانه لنا من بين فكيه استهزاءً واستخفافاً!

نعتقد أنّا تناسينا خيباتنا التي ولّت، فتظهر لنا فجأة بين أيدينا، ندفن جروحنا في مقبرة لحظة ما ونمضي، ونجدها بعد زمن ما واقفة بين أضلعنا طازجة ومضرجة بالدماء، وكأنما خرج للتو سيفها من أجسادنا!

لماذا نُجرَح مرتين، مرة حين الجرح وأخرى حين التذكر؟!

لماذا نتألم مرتين؟!

وحتى حين نتذكر الفرح، لماذا نعيش لحظة أخرى ليست سوى نسخة مقلدة، وقد تكون رديئة للحظة مضت؟!

أليس في ذلك خسارة مجانية للعمر؟!

ما الذي يجعل اللحظة التي تغادرنا أو نغادرها حية، وشبحا يطاردنا مهما اختبأنا عنه في غابة السنين وخلف أشجاره؟!

كيف يستطيع الماضي اقتفاء أثرنا، كما يفعل «مرّي» أصيل؟!

هل نتعمّد نحن ترك آثارنا على الرمل حتى يستدلّ علينا؟! أم إنه من الذكاء والفطنة تعيا الريح وتفقد قدرتها على طمس بقايا خطواتنا على كثبان الرمل؟!

أنا أعتقد أننا نحن من لا يريد فصخ ثياب الماضي عن جسد ذاكرته، ونتمسك بهذه الثياب إلى أن تبلى رغماً عنا.

منذ الصغر ونحن نُلقّن بأن المرء عدو ما يجهل، وبأن «وجه تعرفه ولا وجه تستنكره»... وإلخ هذه الدروس التي تحذرنا من المجهول، والغد بالنسبة إلينا من ذلك العالم المجهول، بينما الماضي مهما كانت بشاعته بالنسبة إلينا يبقى ضمن الوجوه التي نعرفها ونألفها، لذا نحس بالأمان تجاهه مهما قسا.

غدُنا الذي نحلم به دائماً، ليس سوى ضحية خوفنا منه.