القضاء ميزان العدل لذلك يخضع رجل القضاء لقواعد صارمة تمنعه من سماع الدعوى وتجعله غير صالح لنظرها في حالات تنص عليها الأنظمة القضائية، وتجيز للخصم رده في حالات أخرى حددتها، كما أجازت للقاضي إذا استشعر الحرج في غير ذلك من حالات، أن يطلب من المحكمة في غرفة المشورة أو من رئيس المحكمة إقراره على تنحيه عن نظر الدعوى.

Ad

ومن بين الحالات التي تجيز رد القاضي، أن تكون بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة، يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل، وهو ما طرح سؤالا بقوة في الأزمة التي فجرها بين القضاء والمحامين حكم أصدرته إحدى المحاكم المصرية بحبس اثنين من المحامين لمدة خمس سنوات مع النفاذ الفوري، لاعتداء أحدهما على وكيل نيابة المحكمة ذاتها بالضرب ومساندة المحامي الآخر له، وقد أدى هذا الحكم إلى إضراب المحامين وامتناعهم عن المثول أمام المحاكم.

والسؤال الذي كان مطروحا هو: هل يستطيع القاضي أن يحكم بغير ميل، عندما تكون القضية المطروحة أمامه، جريمة اعتداء على أحد القضاة أو أحد أعضاء النيابة العامة، وهي فرع من القضاء؟

لقد كانت أسرع محاكمة في مصر في جريمة ضرب بسيطة، لو أنها وقعت بين أحد من الناس، بأن لطم أحدهما الآخر على وجهه، كما فعل المحامي الذي لطم وكيل النيابة على خده، لكان مآل القضية صلحا بين الطرفين، في مخافر أو أقسام الشرطة أو أمام المحقق أو أمام المحكمة، والحكم الذي يصدر فيها لا يجاوز الغرامة أو الحبس أسبوعا أو بضعة أسابيع.

ولكن جريمة الضرب ولو كانت بسيطة عندما تقع على موظف عام في أثناء تأدية عمله، فإن القانون يشدد العقوبة على مرتكبها، حماية للوظفية العامة، لأن الضرر الذي يلحق المجني عليه وإن كان ضررا خاصا، إلا أنه يتعداه إلى ضرر عام يلحق بالوظيفة العامة وبالجهاز الحكومي كله.

أما إذا وقع الاعتداء على وكيل النائب العام، أثناء تأدية عمله فإن الضرر أبلغ أثرا والإهانة أكثر وقعا، فهي إهانة مضاعفة الأثقال على الجهاز القضائي كله، وعلى هيبة القضاء، وهي من هيبة الحكم وهيبة الحكم من هيبة الدولة.

فالنيابة العامة هي الأمينة على الدعوى العمومية، وهي التي تنوب عن المجتمع في إقامتها، وهي القائمة على حماية المجتمع من الخارجين على القانون، وعلى حماية الفضيلة والقضاء على الرذيلة.

إلا أن القضية كانت في حاجة إلى تحقيق دفاع المتهمين بأن وكيل النيابة العامة هو البادئ بالاعتداء، حيث استعان برجال الشرطة الذين قيدوا المحامي وقام الوكيل بالاعتداء عليه بالضرب.

وهو دفاع لم تلتفت إليه النيابة العامة، فهي المجني عليها، وهي التي قامت بالتحقيق في القضية وجمع أدلتها، وهي التي أقامت الدعوى العمومية فيها أمام المحكمة التي أصدرت الحكم سالف الذكر بالعقوبة الممعنة في القسوة.

وهو دفاع لا يبرئ المحاميين المتهمين من التهمة، لأن سلوكهما الذي سلكاه في الاعتداء بالضرب على وكيل النيابة واختيارهما هذا المسلك مع علمهما أنه لا يليق بمكانة المحاماة ورسالتها، ومع علمهما بالطريق القانوني الصحيح الذي كان يجب أن يسلكاه للدفاع عن حقوقهما وكرامتهما، وأن نقابتهما كانت ستقف معهما، بل كان الرأي العام سوف يقف معهما لم تأخذ شكواهما طريقها الصحيح للفصل فيها بإنصاف وعدالة.

إلا أنه دفاع كان يجب أن يتوقف عنده القاضي، قبل أن يصدر حكمه، لأنه إذا ثبتت صحته، فإن الأمر سوف تكون له عواقبه على سير العدالة، وعلى إحساس الناس بالعدل، لأن وكيل النيابة العامة المجني عليه في هذه القضية قد فقد الحلم والصبر والأناة التي يجب أن يتحلى بها من هو في موقعه.

كما يكون الوكيل قد خرج على التقاليد القضائية التي تقضي بأن يلزم نفسه بما لا يلتزم به الآخرون من قواعد السلوك الاجتماعي والأخلاقي والوظيفي التي تشكل وجدانه وضميره، والتي تجعله دائما مثالاً يحتذى به في التحكم بالعواطف.

وإنه لم يتحل بالصفات التي تجعله صالحا لتولي الدعوى العمومية ومتحليا بالصفات التي جسدتها رسالة سيدنا علي رضي الله عنه إلى واليه في مصر، والتي يقول فيها "اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور ولا تحكمه الخصوم ولا يكتفي بأدنى فهم إلى أقصاه، وأوقفهم في الشبهات وآخذهم بالحجج وأقلهم تبرما بمراجعة الخصوم وأصبرهم على كشف الأمور عند اتضاح الحكم".

نعم فالقضاء هو الحصن الحصين للحقوق والملاذ الأمين للحريات، وهو ميزان العدل، وبالعدل وحده تصان القيم وتسمو المبادئ والأخلاق، وتستقر الطمأنينة في النفوس، ويشعر كل مواطن بالانتماء لوطن يذود فيه القضاء عن كرامة الإنسان وحرياته وحقوقه.

ولقد جسد المشرع المصري هذه المعاني كلها في أول قانون لاستقلال القضاء أصدره في عام 1943 حين تساءل في مذكرته الإيضاحية "أليس القضاء هو الأمين على الأرواح والأنفس والحريات؟ أليس هو الحارس للشرف والعرض والمال؟ أليس من حق الناس أن يطمئنوا إلى أن كل ما هو عزيز عليهم يجد في كفالة القضاء أمنع حمى وأعز ملجأ؟ أوليس من حق الضعيف إذا ناله ضيم أو لحق به ظلم أن يطمئن إلى أنه أمام القضاء قوي بحقه، عزيز بنفسه مهما كان خصمه قوياً بماله أو جاهه أو سلطانه؟ أوليس من الحق أن يتساوى أمام قدس القضاء الحاكم والمحكوم، وأن ترعى حمى الجميع عين العدالة".

إنها قضية كانت يجب أن تحل في بيت القضاة وبيت المحامين، بتحقيق تجريه السلطة القضائية داخلها مع وكيل النيابة، وتحقيق تجريه النقابة داخلها مع المحامين المتهمين في هذه القضية، وبالتنسيق بين الجهتين لبلوغ الحقيقة، وفقاً للإجراءات التي رسمها كل من قانون السلطة القضائية وقانون المحاماة، لأن الجانب الأخطر هو الآثار الوخيمة التي ترتبت على مسار هذه القضية وتداعياتها على المجتمع كله وعلى سير العدالة.