بالتزامن مع تكثف المساعي للبدء بمفاوضات غير مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين تكررت الدعوات إلى انتفاضة ثالثة وخصوصا من قبل حركة حماس، ولعل ما هو ليس في حاجة إلى برهان أن هدف هذه الدعوات ليس الانتصار للحرم الإبراهيمي ومسجد بلال بن رباح، ولا المسجد الأقصى المبارك، وإنما لسحب البساط من تحت أقدام منظمة التحرير والسلطة الوطنية، وأخذ الضفة الغربية إلى ما انتهى إليه واقع قطاع غزة، إذ أقيمت هذه الإمارة الإسلاموية بعد انقلاب دموي، ليتعزز الانقسام الفلسطيني أرضاً وسياسة وإدارة وتمثيلاً، وليكون المستفيد هو هذه الحكومة الإسرائيلية اليمينية والمتطرفة.
بالأساس ليست "حماس" ضد المفاوضات غير المباشرة، فهي قد مارستها بالطول والعرض والسر والعلن مع الإسرائيليين منذ أن كانت فرعاً للإخوان المسلمين قبل الانتفاضة الأولى في عام 1987، وهي لم توفر جهداً ولم تترك وساطة لفتح خطوط مع الأميركيين على أي مستوى وبأي ثمن، والمعروف أن فرحتها باتصال الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر بها كانت باتساع السموات والأرض، والمعروف أيضاً أنها شغَّلت أحد كبار مستشاريها الدكتور أحمد يوسف على هذا الخط، وزودته بمبادرة لو أن السلطة الوطنية هي التي تقدمت بها لضُربت بالألْسن والبيانات ضرب غرائب الإبل!إن مشكلة "حماس" أنها لا تقبل لغيرها ما تقبله لنفسها، وأنها تحرم على الآخرين ما تسعى إليه يومياً، وبشق الأنفس، وأنها في الوقت الذي ترفع فيه شعار "من البحر إلى النهر" نكاية بالرئيس محمود عباس ومنظمته وسلطته وحركته "فتح"، تسعى هي يومياً إلى تسويق مشروع دولة بحدود مؤقتة، وهدنة مدة عشرين عاماً، وأيضاً فإنها في الوقت الذي تتحدث فيه عن "المقاومة" كخيار استراتيجي لا خيار للشعب الفلسطيني غيره، فإنها تُكمِّم بنادق المقاومين في غزة بالحديد والنار، وترمي بكل من يفكر مجرد تفكير في العمل العسكري ضد الحصار الإسرائيلي المطبق على القطاع، في الزنازين المعتمة، بحجة الإضرار بالمصالح الوطنية العليا!أما كانت حركة حماس هي التي أطلقت شرارة الانتفاضة الأولى في عام 1987، والدليل على هذا أن الإسرائيليين عندما أرادوا إخماد هذه الانتفاضة لم يستهدفوا أياً من قادة هذه الحركة الذين كانوا جميعهم في متناول أيديهم، وإنما ذهبوا إلى تونس في عام 1988، واغتالوا خليل الوزير (أبوجهاد) بالطريقة البشعة والإجرامية المعروفة، لأنه كما يقول الفلسطينيون هو "أول الرصاص وهو أول الحجارة"، والقائد الفعلي لتلك الهبة الشعبية التي جاءت في حقيقة الأمر رداً على إخراج منظمة التحرير وقواتها من لبنان، واستهداف هذه المنظمة من قبل إسرائيل وأنظمة عربية معروفة.أما كانت "حماس" هي التي أطلقت شرارة تلك الانتفاضة، ولكنها كما يُقال ركبتها كما ركبت الانتفاضة الثانية، التي أعطاها ياسر عرفات اسم انتفاضة الأقصى، وحولتها بقرار رسمي حسب اعتراف الشهيد صلاح شحادة، رحمه الله، من انتفاضة شعبية إلى مواجهة عسكرية، وكان الهدف الذي لايزال مستمراً حتى الآن هو فَرْطُ السلطة الوطنية وإلغاء منظمة التحرير، و"أخْذ الجمل بما حمل"، كما يقال.الآن بالدعوة إلى انتفاضة ثالثة تسعى "حماس" إلى الهدف نفسه والغاية ذاتها، فهي ترفض المفاوضات غير المباشرة، وتعتبرها رجساً من عمل الشيطان، وتعمل في الوقت ذاته على قلب الطاولة على رأس محمود عباس وسلطته ومنظمته، ولتفعل في الضفة الغربية ما فعلته في غزة، ولتأخذ بعد ذلك مقعد التفاوض مع الإسرائيليين وغير الإسرائيليين، ولتقدم لكل هؤلاء ما تقول إن حركة فتح لم تستطع تقديمه، وهو الأمن والاستقرار والحدود المحروسة، وفقاً لما هو جارٍ في الدويلة الغزية.
أخر كلام
الانتفاضة الثالثة... لماذا؟
09-03-2010