حديقة الانسان: عصافيرنا الجريحة

نشر في 03-07-2009
آخر تحديث 03-07-2009 | 00:01
 أحمد مطر بفضل صلوات «الاستسقاط» التي تزاولها وزارة التربية والتعليم في بلدنا الطافح بالحنان، كانت العصافير تتساقط بغزارة، مرتين كلّ عام. ومن غرائب المصادفات أنّ أحداً منها لا يسقط ميتاً... بل كانت جميعها تنهمر على دروبنا متقاسمة حظوظنا في العمل على إسعافها في عيادات دفاتر الإنشاء.

عصفور جريح

هذا هو الإعلان حالة الطورائ الذي تراكض لإذاعته آلاف قطع الطباشير... من على آلاف السبورات، مستنهضة همة مئات الآلاف من المتطوعين غصباً للإنقاذ.

ولو قيّض لباحث متفرغ أن يقلّب جميع دفاتر الإنشاء بعد كل عملية إنقاذ، لوجد أن القاسم المشترك بين صيغها منحصر في كلمتين اثنتين: «عندما» و»بينما» ولا ثالث لهما. فقد كانت تختلف أنواع الإصابات وتتغاير طرائق العلاج، لكنّ بداية الاستنفار تبقى واحدة في كل الأحوال: «عندما كنت أسير في الطريق، رأيت عصفوراً جريحاً...» أو «بينما كنت أمشي في الطريق، شاهدت عصفوراً جريحاً...» وهلّم كذباً!

إذ لو كانت الوزارة تغفر لنا الصدق مثلما نغفر لها الكذب، لأمكنني بكل بساطة أن أغادر غرفة الاسعاف وأتوجه من فوري إلى غرفة الاعتراف فأخلص ضميري وضمير الوزارة معاً:

أول عصفور جريح في حياتي كان زرزوراً صغيراً، لم أعثر عليه بالمصادفة «بينما كنت أمشي في الطريق»، بل وقع في يدي من نخلة عالية «عندما» كنت ألعب مع رفاقي في بستان صفية، والسبب في سقوطه كان «نشّابة» سددت بها حصاتي إليه، فأكرمني الحظ بدقة التصويب.

وبحجم الحزن العميق على العصفور في الدفتر، كان الفرح الغامر لإصابته على أرض البستان، الأمر الذي اقتضى أن نحتفل، إذ سرعان ما ذبحناه ونتفنا ريشه وغسلناه، فتضاءل حجمه إلى النصف، ثم أوقدنا ناراً وشويناه..

فاضمحل المسكين حتى غدا حجم جوزة صغيرة، لكننا بالرغم من ذلك، أكلنا على رائحته أرغفة! وأعقبنا هذه الوجبة بوجبة أخرى من الضرب المبرح على يد «أم عليّة» زوجة الناطور، مما هيأنا جيداً للوجبة الثالثة على أيدي أهلنا.

أما العصفور الثاني، فقد تعرفت به في سنتي العاشرة، وعلى عكس ما يحدث في درس الإنشاء، كان هو الذي وجدني عصر أحد الأيام «بينما كان يطير في الطريق» فأدخله خطأ في تقدير الاتجاه من شبّاك غرفة الضيوف، ولم تسنح له فرصة تصحيح المسار، إذ أغلقت بوجهه الأبواب والشبابيك، وأمضيت وقتاً طويلا في مطاردته وهو يرفرف عالياً وينحط، حتى استطعت الإمساك به. وانطلقت إلى أمي مشبوب الخذين فرحا وإجهادا، وصحت بجذل: «إنّه بلبل... انظري... له ريش أصفر في عنقه». قالت أمي بحزم: «أطلقه». لذت بالفرار وأنا أضمّه بين كفّي كلقية ثمينة، تاركاً احتجاجي يجري من ورائي: «لا يمكن... سأربيّه ليغرد لنا». وكان الغروب قد حلّ عندما عدت وفي يدي قفص صغير استعرته من جيراننا، علقته والبلبل بداخله، وكافحت بعناد المستميت من أجل بقائه في حوزتي. هيأت له قدحاً من الماء ورحت أمضغ الخبز وألقمه بالقوّة، فيما كانت أمي تصرخ:

«ستقتله يا ولد.. دعه وشأنه».

أقلعت عن إطعامه لكنني أمضيت ساعات أمامه محاولا استدراجه للتغريد بالصفير المتقطّع، حتى ضج إخوتي بالوعيد، فلذت بأمّي برغم انتباهي الى أنها هي أيضا قد داخت من صفيري: «سيغرد يا أمي.. حتماً سيغرد». لكنها ردّت علي بلهجة متوازنة بين السخرية والسخط: «أطلقه يا ولدي، لسنا بحاجة الى تغاريده، تغريدك أنت يكفي بلداً». وانقطع تغريدي تحت وطأة النعاسن ورحت، وأنا في طريقي إلى الفراش، أنظر إليه بقلق من بين أجفاني المثقلة. كان بائساً ومنكمشاً من الذعر. في الصباح لم أجد البلبل.

قالت أمي معزية: «وجدناه ميتاً.. فرميناه». لم أصدق. كنت على يقين من أنها أطلقته، مثلما أنا على يقين من أنها لو كانت معنا في المدرسة، لحصلت على الدرجة النهائية في موضوع (العصفور الأسير). وتظل نابضة في ذهني ذكرى جريح ثالث رأيته بعد ثلاثة أعوام من اختفاء البلبل. كنّا جالسين على الرصيف أمام بيتنا، وكان في معيتنا أبرع هدّاف بالنشّابة صاحبنا «ستّوري» الذي كان قد اعتاد أن يدسّ دشداشته في لباسه الداخلي صانعا بذلك جيباً كشق بطن الكنغر! قال لنا وهو يبتسم بثقة: أترون ذلك الزرزور الواقف فوق السلك؟ سأصطاده من هنا. كان سلك الكهرباء من فوقنا عالياً جداً، وعلى الرغم من اعترافنا ببراعة «ستّوري» فقد داخلنا الشكّ في نجاحه، لكنه دسّ كّفه مسرعاً في جيب الكنغر، وأخرج منه النشّابة، ثم ألقمها حصاة، وصوّب وهو جالس نحو الطائر، وإذ تأكد من أنه أحكم التصويب، خفض رأسه نحونا تاركاً يديه مرفوعتين عالياً بثبات، وشد الوتر قائلاً: «استلموه».

ولم يكد يكمل عبارته حتى كان الزرزور قد سقط في حضنه! رفرف بجناحيه لبرهة... ثم أخذ يتقلّب.. ولم يلبث أن همد. لم نستطع إنقاذ المسكين، إذ كنّا، لسوء حظه، في منتصف عطلة الصيف، ولم تكن في حوزتنا دفاتر إنشاء!

* شاعر عراقي

back to top