عمىً ليس بالمُطلَق

نشر في 03-08-2009
آخر تحديث 03-08-2009 | 00:00
 فوزية شويش السالم ملكة الكتابة الإبداعية تختلف من كاتب إلى آخر، لكني دهشت حين قرأت رواية «شارع ميجل» التي هي سيرة لطفولة الروائي «ف.س.نايبول» الحائز جائزة نوبل العالمية، والتي سأكتب عنها في مقال لاحق.

ما أثار انتباهي في الرواية هو هذه القدرة الهائلة على الرصد والتذكر، خصوصا عندما تكون هذه الذكريات آتية من الطفولة والمراهقة، أي نعم نحن جميعا لنا قدرة على التذكر، لكن في نطاق محدود وليس كأن ما نتذكره مازال ماثلا ويحدث أمامنا الآن، أنا مثلا لا أتذكر الشخوص الذين مروا في طفولتي وهم قلائل وليسوا بهذه الكثرة التي تصعّب على التذكر، ومع هذا يصعب علي تذكرهم كوجود نابض حي، فهم عندما يمرون ليسوا أكثر من أشباح لا يملكون حياة مكتملة، ربما هو شيء متوهج ينبعث من أحساس أو ملامسة غامضة أو ضحكة أو طبطبة أو ذاكرة مجتزأة لا تأتي باكتمالها، وهو الأمر المحير والمثير للغيظ دائما، خصوصا عند محاولة الركض خلفها لاقتناص ما يكمل هذه الومضات العطشانة لاكتمالها.

وأتذكر في بداياتي الشعرية ما قاله الصديق الروائي «يوسف القعيد»، وكنا لحظتها خارجين من اتليه القاهرة: يا خسارة يا فوزية عينيك عميا لم تلتقط أي حاجة... لن تصبحي كاتبة رواية».

وهذا كلام صحيح، فأنا خرجت من دون الانتباه إلى أي شيء محدد أو رصد أي تفاصيل معينة، وإلى اليوم لا أتذكر إلا جملة العزيز يوسف التي أثرت في، لا لأني لن يكون بإمكاني كتابة الرواية لأنه في ذاك الوقت لم أفكر حتى في كتابتها، ولم يكُن لدي أي رغبة في كتابتها، لكن ما أثارني في جملته هو العمى وعدم القدرة على الإلمام بكل ما يدور من حولي، وفسرت هذا الأمر بأنه ربما يعود إلى طبيعة الشعر التي هي مختلفة عن طبيعة الرواية، فالشاعر يغرف من تفاصيل عالمه الداخلي الذي لا يدرك كيف تركب، فالشعر لا نجلس لكتابته، لكنه هو من يكتبنا.

والغريب في الأمر هو عندما كتبت الرواية أيضا جاءت بمنطق حضور الشعر، فكل الشخصيات التي كتبتها وألفت حياتها ليس لها أي واقع حقيقي، وأغلبهم أتوا من العدم من دون أن يكون لهم أي ملامح حية ومرصودة، كلهم أو أغلبهم كانوا من نحتي واختراعي.

كيف أتوا إذن؟

إذا كنت لا أرصد الواقع من حولي وليس لدي إلا حال العمى الفاشلة والخالية من نبضات حياة من يعيشون في الواقع لا في الخيال، إذن الأمر يعود إلى الطبيعة الفنية للكاتب فأنا جئت من الرسم والتشكيل أولا ثم تحولت إلى الكتابة، فبالتالي اعتقد أن هذا الأمر يؤثر كثيرا في طريقة الكتابة، فما أقوم به هو نحت لكتلة من الصخر تتشكل في نهاية الأمر بملامحها البشرية وطباعها وحضورها الحي، ما يضعها في مصاف أشخاص يشبهونها في الواقع المُعاش، وقد يكونون حقيقيين رصدتهم الذاكرة من دون وعي مني، أي أنه اصطياد المسرنم الغائب في ملكوته، لكن مع هذا هناك أشياء كثيرة تسقط في نهره من دون أن يكون في حال استيقاظ كامل، وهي واحدة من طرق الاختلاف في الكتابة، وإن كنت في الحقيقة أتمنى أيضا أن أملك الملكية الكاملة لعملية الرصد والمراقبة الطبيعية. 

back to top