من يصنع الدكتاتور؟

نشر في 26-04-2010
آخر تحديث 26-04-2010 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري هذا عنوان لكتاب صدر عام 2008م للروائي والباحث العراقي سلام عبود، يتناول حياة الرئيس العراقي صدام حسين والعوامل المكونة لشخصيته بدءاً من طفولته، مروراً بوصوله إلى السلطة وانتهاءً بإعدامه صبيحة عيد الأضحى لعام 2006م، يبدأ الكتاب بمقدمة تاريخية اجتماعية فريدة عن طبيعة الشخصية العراقية التي تصنف بأنها شخصية خلافية ومزدوجة، وهو التصنيف الذي أشاعه عالم الاجتماع العراقي د. الوردي تبعاً لرأي الجاحظ في كتابه «البيان والتبيين».

يرى د. الوردي أن تصارع قيم البداوة والزراعة في نفسية الشخص العراقي أو الصدام بين المجتمع الزراعي والمجتمع الصحراوي بسبب الطوق الصحراوي القاري المحيط هو الذي أوجد هذا الازدواج المتمثل في «العنف الشديد والخضوع الشديد للقوة».

ويرى المؤلف أن الوردي خلط بين التشخيص والتفسير، إذ لا خلاف على ازدواج الشخصية لكن تفسير ذلك بالعامل البيئي المتمثل بالطوق الصحراوي، غير مقبول علمياً، ويرى إعادة النظر في هذا العامل من زاوية أخرى «سياسية– اجتماعية» باعتبار وجود عاملين تاريخيين أساسيين لعبا دوراً ملحوظاً في تكوين الشخصية العراقية، هما: 1- توالي الحضارات المركزية وما رافقه من إلغاء ثقافي متطرف وهدم لكل الرموز السياسية والمعتقدات واللغة. 2- شدة ضغوط المحيط الخارجي خصوصا في فترات الضعف التي مرت بها الممالك العراقية، حيث كانت القوى العالمية الثلاث: الفارسية والرومانية والبيزنطية تمثل تكوينات ثقافية عرقية دينية ضاغطة على البيئة العراقية.

ويفسر المؤلف بهذين العاملين، الميل إلى العنف في المجتمع العراقي إلى الحد الذي يكاد أن يكون جزءاً من بنية ثقافية، ويرى أن هذا الميل لا يزول إلا بكسر دورة إنتاجه، أي بتدمير الأسس العامة المنتجة له: الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ويذكر قصة تاريخية مشهورة، وهي أن رجلاً جاء يسأل ابن عباس عن حكم نجاسة البعوضة، أو جواز قتل الذبابة في المسجد؟ فقل له: من أي بلاد أنت؟ فقال: من العراق، فرد عليه: عجبت لكم أهل العراق، تقتلون الحسين وتستفتون في دم الذبابة! ومن خلال هذا التناقض يفسر المؤلف بعض الحوادث السياسية مثل اتفاقية الجزائر مع الشاه وغزو المحمرة، وغزو الكويت والانسحاب الذليل منها، وحملات الأنفال وشدة قمع المعارضة والانهيار المريب أمام الاحتلال الأميركي.

منابع الدكتاتورية

في هذا الفصل يطرح المؤلف عدة تساؤلات: هل الدكتاتورية قدر أم حالة تاريخية؟ وهل الدكتاتورية نزعة فردية نفسية أم حالة اجتماعية سياسية؟ وخلافاً لما هو شائع من أن الدكتاتورية نقيض الحكم الديمقراطي، يرى الباحث أن وظيفة الدكتاتور كانت شكلاً من أشكال ممارسة السلطة في النظم القديمة، فقد اختير أول دكتاتور في روما عام 501 ق.م، واختار الشعب ماكسيموس دكتاتوراً إبان حرب هانيبعل عام 211ق.م كحاكم شرعي، فالدكتاتور كان مجرد ممثل للحكم لفترة خاصة، يتم فيها تركيز السلطة بيد فرد أو جماعة بهدف مواجهة خطر عظيم، ومن هذا المنطلق كان ظهور وصعود هتلر، في نظر البورجوازيات الأوروبية، شأناً استثنائياً عالمياً وداخلياً في مواجهة الأزمة الألمانية الداخلية واشتداد نضال الجماعات اليسارية، وتنامي قوة الاتحاد السوفييتي في الخارج، وكذلك الأمر مع فرانكو الذي قام بذبح الجمهورية الإسبانية على مرأى أوروبا الديمقراطية.

هل يخلق الدكتاتور نفسه بنفسه؟ وهل النزوع إلى الدكتاتورية صفة نفسية، وراثية، أو اجتماعية؟ أم هو محض مصادفة يخلقها عدد من الوقائع المترابطة، يتحقق باجتماعها عنصر الطغيان؟

يتحدث المؤلف- هنا- عن نظريتين:

الأولى: ترى أن الاستبداد الشرقي يرجع إلى عوامل تاريخية موغلة في القدم، وخلف هذه العوامل توجد أسباب مادية، وعقلية، فدجلة والفرات والنيل ويانغ تسي كيانغ تطبع حياة الشرقي بطابع الكلية، وهي التي كانت وراء فكرة الإله الواحد الأعلى، وليس فقط الحاكم الواحد الأعظم، وتنشر بعض المراجع الأوروبية، الدكتاتورية على رقعة جغرافية واسعة تشمل العالم عدا شمال وغرب أوروبا، التي لا تنتج الدكتاتورية في نظر هذه المراجع، وهي نظرية يؤيدها الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو، صاحب كتاب «روح القوانين» والذي رأى أن سبب تخلف الشعوب الإسلامية يعود إلى البيئة والمناخ، فهي بيئة جافة وصحراوية أو شبه صحراوية ولا تساعد بالتالي على التفتح العقلي أو التسامح الديني أو الاستنارة الفكرية إنما هي بيئة مناسبة تماماً لانتشار الأفكار الأصولية المتعصبة والاستبداد السياسي، أما البيئة الأوروبية فهي معتدلة وباردة وذات أمطار غزيرة وتربة جيدة للزراعة، وبالتالي هي مناسبة للحكم الديمقراطي والتسامح الديني والتقدم العالمي.

وينتقد المؤلف هذا الرأي ويقول إن الوقائع التاريخية لا تؤيده، إذ لا تنحصر الدكتاتورية في رقعة محددة، فقد عاش الإنكليز تجربة الدكتاتورية خلال حكم كرومويل «1599-1658» الذي توج نفسه حاكماً مستبداً ضد إرادة البرلمان على إثر حرب أهلية، وشهدت بولندا وليتوانيا ويوغسلافيا وألمانيا وإيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال أنواعاً متعددة من الدكتاتوريات.

ويضيف هاشم صالح: إذا كان كلام مونتسكيو صحيحاً، فلماذا ساد الاستبداد الأصولي طيلة عدة قرون في فرنسا ولم يسقط إلا بعد انتصار التنوير الفكري واندلاع الثورة الفرنسية؟ وبالتالي فهناك عوامل أخرى غير المناخ تلعب دورها.

النظرية الثانية: تحاول رد المشروع العنفي الرجعي، بما في ذلك الاستبداد الدكتاتوري إلى عوامل سياسية تاريخية متراكمة وليس عوامل جغرافية ونفسية فحسب، فكتاب «قرن كامل من أجل اللاشيء» حول البحث عن الراهن العربي من خلال متابعة عوامل موت مشروع النهضة العربية، مهد الكتاب لظهور السؤال الأكثر حيوية: كيف أنتج مشروع النهضة العربية أشخاصاً من نوع: بن لادن والظواهري وصدام حسين؟! طبقاً لهاشم صالح.

بعد هذه المقدمة الطويلة، يطرح المؤلف تساؤله العميق: من صنع الدكتاتور صدام: طفولته أم حزبه؟ ويحدد المؤلف 3 عوامل مهمة ساهمت في تكوين شخصية صدام الاستبدادية، هي:

1- الطفولة البائسة: يستخلص المؤلف من الكتب التي تناولت طفولة صدام في رعاية خاله طلفاح نتيجة مهمة، هي أن صدام كان دكتاتوراً جاهز الصنع منذ الطفولة، بأنها كانت طفولة معقدة وبائسة وشديدة القسوة، فقد صورت هذه الكتب صدام طفلاً شريراً يتسلى بتسخين قضبان حديدية يبقر بها بطون الحيوانات، ولا يتوانى عن وضع الأفاعي في جيوب المتعلمين، هكذا قال عنه أصدقاء الطفولة المقربون وكانوا شاهدين على أعماله اليومية الصغيرة: النشل، السرقة، الاعتداء وصولاً إلى أول عملية إطلاق نار، ثم أول عملية قتل فعلية، وهي قتل الحاج سعدون الناصري أحد القياديين الشيوعيين في تكريت بتكليف من خاله طلفاح.

2- المشروع البعثي العراقي: الطفولة القاسية وحدها لا تفسر دكتاتورية صدام ما لم تجد تربتها الملائمة التي تزدهر فيها، وهي المشروع البعثي العراقي الذي يعد العامل الحاسم في جعل هذا الطفل المنبوذ البائس ظالماً عظيم الطغيان، ويؤكد الباحث أن صدام أضحى دكتاتوراً من خلال مشروع البعث الدموي، الذي وجد فيه صدام الإطار السياسي والعقلي والاجتماعي الملائم، وإن دكتاتورية صدام حالها كحال دكتاتورية هتلر، جزء من مشروع سياسي، وما من سبيل إلى درء مجيء دكتاتور مماثل، ما لم يتم ردم المنبع السياسي الذي يولد منه الدكتاتور القادم.

3- البيئة السياسية والقانونية والاجتماعية المجوزة للطغيان: إذا كان العمران لا يتحقق إلا بالاجتماع فإن الطغيان لا يتحقق أيضاً إلا بالمعاونة، وأكثر طغاة العرب شذوذاً كالحجاج، لم يكن مشروعاً فردياً للطغيان بل كان سفاحاً يمثل بطريقته الخاصة سياسية محددة في ظروف تاريخية محددة، فلم يكن ممكناً في زمن الخلفاء الراشدين ظهور حجاج يقوم بذبح جماعات واسعة من أبناء الأمة علناً، وذلك بسبب السلطة الدينية والمدنية المانعة، وبالنسبة لصدام فإلى جانب العوامل السياسية والاجتماعية، يحتاج طغيان مثل طغيانه إلى جيش كبير من المعاونين الميتي الضمير، ينتهي المؤلف إلى القول: إن صناعة الدكتاتور وثقافة العنف، عملية اجتماعية لا يصنعها الدكتاتور بنفسه، بل يقوم بها جيش لجب من الوشاة والمادحين والسياسيين النفعيين والكتاب ميتي الضمير، ولهذا السبب فليس الحاكم الفاسد وحده من يفسد رعيته، بل إن الرعية الفاسدة قد تقوم بعملية إفساد الحاكم أيضاً، وفي ظروف العراق كان الإفساد عملية متبادلة بين الدكتاتور وجيش المزورين من دعاة ثقافة الحرب والعنف.

*كاتب قطري

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top