عزازيل: المقصلة والخلاص
قد يظن معظمنا، أن الاشتغال في تحقيق المخطوطات التراثية، واتخاذها مهنة في الحياة، ربما يُنتج شخصاً نمطياً، محدود الخيال، منغمساً في الرتابة، تتضبب ملامحه بغبار التاريخ، وتفوح أحاديثه وحواراته برائحة القِدَم وتصرّم الزمان! ولكن يوسف زيدان،الباحث والمتخصص في تحقيق وفهرسة التراث العربي المخطوط وعلومه، يدحض لدينا هذا الظن، حين يؤكد حيوية العلوم التراثية وعنفوانها، وسريان نسغها الحي في شجرة الحاضر وأزهاره وثماره، فلا غرو إذن أن تكون المخطوطات "معشوقته الأبدية "، كما يصرح دائماً. ويبدو أن هذه المعشوقة كانت أهلاً للعشق، حين بادلت المحب وفاءً بوفاء، وأفاضت عليه من نعيم الوصل والإلهام، ما مكنه من إنجاز نص روائي مثل (عزازيل). ولعل المفارقة اللافتة في هذا المقام، تتجسد في تلك الدهشة، من إمكان انبثاق هذا اللون من العمل الروائي، المعجون بروح الشعر وعذوبة الأسلوب واتقاد المخيلة، من قريحة ذات خلفية علمية محضة، ديدنها تثبيت الحقائق، والالتحام بلحم الواقع وعظمه! بيد أن لكل قاعدة شواذ، والشذوذ في (عزازيل) جاء في مصلحة الفن الروائي ولا شك.
وتتسع دائرة المفارقة والشذوذ (المبدع)، حين يتحول موضوع عسير ومتجهم، وذو حساسية عقائدية وخلافية مفرطة، كموضوع الاضطهاد الديني والصراع الطائفي، إلى نَفَس روائي رائق في سلاسته وحسّه الإنساني العميق، وفي ملامساته المرهفة لقلق الإنسان وحيرته وتمزقه، وهو يحترق في أتون تلك الصراعات، التي يدفع ثمنها من دمه ويقينه. إن اختيار الكاتب مطالع القرن الخامس الميلادي مسرحاً تاريخياً لأحداث الرواية، واختيار الصراعات والخلافات العقائدية الكنسية عصرئذ، لم يأتِ لهدف التمويه والإسقاط على عصرنا الراهن فقط، إنما أتى أيضا بـ(هيبا) بطل الرواية، ليكون مرآة ينعكس على صفحتها الصقيلة، تراث ممتدّ ومطرد من القلق النفسي والعقائدي والوجودي، إزاء ما يحدث من تشويه لروح الإنسان وقتل ليقينه الإيماني، وهو يشهد تلك السلسلة من الصراعات الدموية اللامنتهية، على مناصب وصولجانات ذات ثمن بخس. فما أشبه الليلة بالبارحة! ولما كانت الثيمة الأساسية للرواية، هي البحث عن يقين وسط ركام من المتناقضات الفكرية، وافتقاد الأمن الروحي، وفوضى العقائد التي تجبّ إحداها الأخرى، فإن شخصية (عزازيل / إبليس أو الشيطان) تأتي معادلاً موضوعياً وموازياً في هذا السياق لشخصية (هيبا) الراهب الطبيب، الممزق بحيرته، المتهافت روحياً وإيمانياً.وكيف لا يكون -وهو بهذه الهشاشة المفرطة- لقمة سائغة لألاعيب (عزازيل) وغواياته؟! وتلك الغوايات وإن كانت معظمها تصب في مجرى الآثام الحسية الغريزية، فإنها لامست في نفس (هيبا) شكوكاً أخرى، حول فكرة العناية الإلهية، والخير والشر، وماهية النبوة والجدل حول تجلياتها... إلخ. ووسط هذا الأتون من مغالبة الضعف البشري والشكوك القلبية، يصل (هيبا) إلى حقيقة أن (عزازيل) ليس إلا صوت ضميره، ونفسه الممزقة المتهافتة التي تراوده عن نفسه، وإنه ليس إلا ضحية للقسوة والاضطهاد وارتباك المعتقد في روحه المتعبة. فقد شهد قتل والده بوحشية على أيدي (جهّال أهل الصليب) في بداية عهد المصريين بالمسيحية، وشهد عملية ضرب وسحل وحرق أحب امرأتين إلى قلبه وهما: أوكتافيا وهيباتيا، لاتهام الأولى بالوثنية، والأخرى بالهرطقة والاشتغال بعلوم الفلسفة والرياضيات، وهي إرث الوثنيين من اليونان والرومان!! ثم شهد أخيراً انقلاب رجال الكنيسة على الصديق والأب الروحي نسطور، بسبب اجتهاده ورؤيته المختلفة لماهية النبوة والألوهية في السيد المسيح، وقلقه على مصير هذا الصديق الصدوق، من عواقب هذا الاختلاف. وهو أخيراً أمضى ردحاً من عمره في الترحل والتجوال في مفاوز المشقة والعوز، وفي الأديرة والصوامع، بحثاً عن يقين لروحه الموزعة القلقة. وأخيراً، يدرك (هيبا) أن الترحل والنفي هما متاهته وامتحانه الأرضي، وأن الاغتراب قدره الروحي ووجعه الفكري، وأنه لا خلاص له من معاناة واقع بهذه القسوة والظلم والعبث، إلا بالكتابة عنه وإدانته، ومن هنا انبثقت فكرة تدوين تجربته الإنسانية بإلهام وتحريض من عزازيل، شيطانه وقرينه الألدّ، فأتت الكتابة في ثلاثين رَقّاً، وكانت مقصلة للتطهّر، وخُلاصة لحياةٍ مضطربة، وخلاصاً.وبعيداً عن تهاويم المخيلة في شخوص الرواية وأدوارهم وحواراتهم، يبقى المهاد التاريخي والوثائقي هو حجر الزاوية والمدماك التي بنى عليها يوسف زيدان هذا العمل الروائي المتميّز، ويبدو أنه استثمر فعلاً اشتغاله الدؤوب على المخطوطات التراثية، التي رفدته بهذه الإحاطة بظروف العصر وأحداثه، فتهيأ له المسرح ليشتغل عليه ويثريه بمخيلته المبدعة. وتبقى الفضيلة الأهم في هذا العمل، هي قدرته على إحداث تلك الإسقاطات الذكية على عصرنا، وخلق تلك الآصرة بين المتشابهات من هموم الإنسان وأوجاع روحه.