في ضوء تجربة ما بعد آخر انتخابات لبنانية، وأيضاً في ضوء هذا الذي يجري في العراق، فإنه من الضروري التساؤل عما إذا كانت الانتخابات ضرورة في هذه البلاد، التي تسمى "الوطن العربي"، والممتدة من الماء إلى الماء، ما دام الاحتكام في النهاية ليس لصناديق الاقتراع، وما دام رئيس بشرِّه، لأنه لم يكن فيه خير، لم يخجل من أن يعلن أنه فاز بمئة في المئة من أصوات شعبه السعيد، حتى بما في ذلك نزلاء القبور والمستشفيات ومصحَّات المجانين والعجزة والذين توفاهم الله في ذلك اليوم المشهود، الذي إكراماً له توقفت الشمس في كبد السماء!
قبل أيام كانت هناك ندوة عن الإعلام والانتخابات، وعندما جاء دوري لأدلي بدلوي في بئر من دون قرار، تذكرت طرفة قديمة هي ليست طرفة في حقيقة الأمر وإنما هي إحدى حقائق هذا الوضع العربي، الذي هو الآن وفي السابق "لا يسر الصديق ولا يغيظ العدا"... تقول هذه الطرفة التي تعود إلى بدايات سبعينيات القرن الماضي: "إن ألمانيا الغربية عرضت على دولة عربية سعيدة، أصر قائدها المُلهم على الاحتكام إلى صناديق الاقتراع، بعد أن وصل إلى الحكم من خلال أبراج الدبابات، ولكن من دون أن يطلق طلقة واحدة، أجهزة متطورة لديها القدرة على فرز أصوات الناخبين خلال ثمان وأربعين ساعة... فكان جواب وزير داخلية هذه الدولة السعيدة: أنَّ لدينا "أجهزة"! فرزت أصوات ناخبينا قبل عشرة أعوام، وإذا أردتم أن نزودكم بها فنحن جاهزون". في لبنان جرت انتخابات حقيقية وشفافة ونظيفة، وتم فرز الأصوات من دون الحاجة إلى "أجهزة" الدولة العربية المشار إليها "مجرد إشارة"، وفازت مجموعة الرابع عشر من آذار، رحمها الله الرحمة الواسعة وغفر لها ذنوبها ما تقدم منها وما تأخر، بالأكثرية، وكان المفترض أن يشكل سعد الحريري حكومته العتيدة بالاستناد إلى هذه الأكثرية خلال أيام، لكنه لم يتمكن من ذلك إلا بعد أكثر من أربعة أشهر، وبالاستناد إلى التوازنات الإقليمية المعروفة والمعادلة الطائفية الداخلية. إذن لماذا هذه الانتخابات؟ ولماذا الضحك على ذقون من لهم ذقون في لبنان ومن هم بغير ذقون ما دام أن أصوات الناخبين لا قيمة لها وما دام أن العقْد والحل بيد التوازنات الإقليمية والطائفية، التي يصر الشيخ حسن نصرالله ويواصل الإصرار على ضرورة إعادة النظر فيها، وعلى أن يكون توزيع الغنائم على أساس مسيحيين وسنة وشيعة لا مسلمين ومسيحيين، وفقاً لما بقي سارياً منذ فجر الاستقلال في بدايات أربعينيات القرن الماضي حتى الآن؟! وفي العراق جرت انتخابات سابقة وستجرى انتخابات لاحقة، لكن كما ثبت وكما هو واضح أنه سيثبت مرة أخرى أن الكلمة الفصل ليست لمن فرزته وما ستفرزه صناديق الاقتراع، بل أولاً لمبدأ المحاصصة البائس الذي كان وضعه "برايمر"، ثم للتوازنات الإقليمية، ولكن بحدود لا تصل إلى مستوى التجربة اللبنانية، ولعل ما يؤكد هذا هو هذه الاشتراطات التي استيقظت فجأة بعد أن أقر البرلمان وأقر مجلس الرئاسة العتيد قانون الانتخابات الجديدة. إنها حقيقة مرة بالفعل وإن ما يزيدها مرارة أن أصحاب الانقلابات العسكرية، الذين قاموا بانقلاباتهم باسم استبدال الأنظمة الملكية والإمامية بأنظمة جمهورية، قد ارتدوا على جمهورياتهم، وحولوها إلى ملكيات مزورة، ولكن من خلال صناديق اقتراع قامت "أجهزة" كفوءة ومدربة على فرز ما هي محشوة به من أصوات حتى قبل أن يبلغ مبعوث العناية الإلهية سن الرشد والرشاد بأعوام عدة! كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراءيمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة
مقالات
الحقيقة المرة!
22-11-2009