اثنا عشر يوماً في إيطاليا. في ميلان، فيرونا وفلورنسا. ميلان مدينةٌ لا يحجب عنك وجهُها التاريخي وجهها المعاصر. الأمر حدث مع فيرونا وفلورنسا. ولعله حدث مع الأخيرة بصورة حاسمة. فحين تعتلي المرتفع الأرضي الذي يطل على المدينة، ترى أمامك لوحة تشكيلية تعود إلى عصر النهضة. وحين تنحدر إلى الطرق التي توصل الأحياء ببعضها، تدخل عصر النهضة الذي تعرف مذاقه، وتشم رائحته، ويدب ملمسه على أطراف أصابعك، كما تدب السلاحف. لأنه ملمس خشن.
آخر ما أصغيت إليه من الموسيقى، قبل مغادرتي لندن، كانت أوبرا للإيطالي «ليونكافاللو» بعنوان «آل مِديتشي»، عائلة عصر النهضة الحاكمة في هذه المدينة، والتي صرفت سنواتها عرابة للفنون والضغينة. سمعت دبيب خطاهم فوقي وأنا أعبر جسر بونتي فيتشيو العتيق على نهر آرنو، الذي بُني في 1345. لأن في الطابق الثاني لهذا الجسر ممرا خاصا للعائلة الحاكمة تلك، يوصل بين قصرين.على مقربة منه جسر بديل للجسر الزائل، الذي اقتنص فوقه الشاب دانتي، وهو يعبر متعجلاً، نظرة حب خالدة لوجه بياتريتشه. نظرة خالدة، لأنه على أثرها شرع في كتابة «الكوميديا الإلهية»، وجعل الحبيبة، التي لم يمس أطراف أصابعها، دليله إلى «الفردوس». بعد دليله «فيرجِل»، الشاعر اللاتيني الذي قاده عبر «الجحيم» و»المطهر».مايكل انجلو كان هناك، في الوقفة العارية لمنحوتة «ديفيد»، الذي تلاحقك نظرته الفتية، المكابرة حيث تذهب. وهناك «جيوتّو»، و»بوتيشيللي» ودافنشي.على أن أصداءَ الموسيقى في أُذني لم تكن عالية كفاية، شأن العمارة، والرسم والنحت. صحيح أن فن الأوبرا نشأ فيها في نهاية القرن السادس عشر، على يد «مونتيفيردي» ومجموعة الموسيقيين التواقين إلى تمثّل الدراما اليونانية، لكن المدينة لم تكن حقل الخبرة الموسيقية مثل فينيسيا.هذه بعض من ملامح فلورنسا، وهي جميعاً تنتسب إلى زمن مضى، تملأ عليك كل حاسة. وبهذا المعنى قلت إن مدينة عصرِ النهضة تحجب عنك المدينة المعاصرة. وزحمة السائحين وهم يعززون هذا الإيهام، في ملاحقتهم الدؤوب لكل صغيرة وكبيرة بعدسات كاميراتهم، خشية أن تفلت من سحر الماضي، فتسقط في الحاضر وتتهشّم.فيرونا أقل سيادة على الحاضر، باستثناء الباحة الصغيرة التي تتوسط حارة «جولييت». فعلى جهة اليسار، حين تدخل، تُطل عليك من عل شرفة صغيرة، كانت ذات يوم المُتنفّس الوحيد لجولييت المولهة لكي ترى روميو الموله.ولكن لمن تعود الشرفة حقاً؟ للمكان الإيطالي، أم للمكان الشعري الشكسبيري؟ في مدخل الباحة تمتلئ الجدران بمئات الآلاف من الأوراق التي خلفها العشاق من الزائرين. إن شكسبير انتزع العاشقَين من قبضة الزمان، وأطلقهما في فضاء لا زمني.ولأن الفنّ هو عماد مجدها بقيت فلورنسا، مثل روما، هدف هجرة طلبة الفن من العراقيين، منذ أواسط السبعينيات. واليوم، بعد أن توزّعوا في عموم الغرب، لم يبق منهم إلا القليل. التقيتُ منهم الفنان فوزي الدليمي، المقيم منذ خمسة وثلاثين عاماً. ولقد لمع اسم فوزي، إلى جانب الرسم، في حقل الترجمة الشعرية من العربية إلى الإيطالية وبالعكس. ترجم على مدى عشرين عاماً لمعظم الرواد: السياب، نازك، عبدالصبور، البريكان، أدونيس، درويش، وآخرون. ومازال يثابر في هذا الاتجاه. ثم التقيت الفنان الكردي آزاد في الاستوديو الشخصي الذي جعله قاعة للعرض أيضاً. وآزاد واضح الطموح باتجاه الفن المفاهيمي، ولكن على قدر عال من الأناقة. ثم التقيت حميد المشهداني الذي هجر إيطاليا منذ سنوات إلى إسبانيا. التقيته في فيرونا في المعرض المشترك بينه وبين فوزي الدليمي والفنانة الإماراتية فاطمة لوتاه، المقيمة منذ سنين. كان المعرض تحت عنوان «شارع المتنبي رقم واحد». والتقيت النحات سليم عبدالله، المقيم في مدينته السويسرية الحدودية، واستعرضت أعماله «الإيحائية» الموزعة على أكثر من ركن في المدينة الصغيرة. ولم أفتقد صحبة الناقد السينمائي الناشط عرفان رشيد. وعلى مبعدة تأملت البقيةَ ممن لا أعرف، تحت ظل متحف الفن الشهير «أوفيزي»، يمارسون مهنة الرسم للسائحين.
توابل
من الشمال الايطالي
17-06-2010