هذه الأيام تتفوق عروض الفقهاء على عروض شركات الاتصالات: «استمع إلى فتوى واحصل على الثانية مجانا»، وإذا كان البعض يرى أن «اختلاف العلماء رحمة» باعتبار أن المسلم يمكن أن يأخذ بالفتوى التي تتوافق مع ظروفه فإن ثورة الفتاوى هذه الأيام تنطلق من مبدأ آخر، وهو أن «اختلاف العلماء زحمة»، حيث بدأت لعبة التراشق بالفتاوى داخل التيار الإسلامي والنبش في الكتب القديمة لأسباب ليس لها علاقة بمصلحة المسلمين، قدر ارتباطها بتجاذبات ومناكفات داخل التيار الواحد.

Ad

آخر هذه الفتاوى تقول إن الموسيقى والغناء حلال، وإنه لا يوجد أي نص يحرمهما، وإذا وجد فإنه أحد نصين: «إما صريح غير صحيح أو صحيح غير صحيح»، ولعل مشكلة تحريم الموسيقى قريبة «نوعا ما» من مشكلة تحريم الاختلاط، حيث لا يوجد نص من القرآن أو الحديث يؤكد حرمة هذا الأمر، مثلما هو الأمر في قضايا صريحة مثل تحريم السرقة أو الزنى أو القمار أو الخمر أو الربا، فيتم الاستناد في التحريم إلى فتاوى قديمة لعلماء أجلاء، ثم يتم تجريد الموضوع من سياقه الأصلي ليتم تصوير الموسيقى على أنها تعني الخلاعة والمجون، ويتم تصوير الاختلاط على أنه يعني الاتصال غير الشرعي بين الرجل والمرأة، والمشكلة هنا لا تتعلق بالحرام والحلال بقدر ما تتعلق بتجييش الرأي العام للوقوف صفا واحداً ضد التفكير في هذا الأمر، والإيحاء بأن مجرد وضعه محلا للنقاش هو انزلاق في الإثم، حيث يتم تقسيم الناس وفق القاعدة القاسية: «مع أم ضد؟».

ولأن الناس بطبيعتهم لا يحبون الوقوع في الإثم فإنهم يستسلمون فورا لصراخ التيار المتشدد، ويقبلون بشعاره المرعب: «لا للتفكير» وبعتبرون أن أي شك يداخلهم بخصوص هذه المسألة هو من صنع الشيطان وليس من صنع العقل.

ولعل أطرف تداعيات فتوى تحليل الموسيقى أن عددا لا بأس به من المسلمين الذين يخوضون حروبا إنترنتية شرسة ضد صاحب الفتوى لا يستطيعون مقاومة الاستماع إلى محمد عبده أو لطيفة أو حسين الجسمي، فهم منذ القدم يعيشون شعورا غريبا تجاه الموسيقى، حيث يشعرون أنهم مذنبون، وسيتوبون يوما ما عن هذه الخطيئة اليومية الجميلة التي يرتكبونها رغما عنهم, ويجدون أن أكبر اعتداء يمكن أن يوجه إلى ثقافتهم وضمائرهم، هو محاولة إقناعهم بأنهم لم يذنبوا في يوم من الأيام.

ثمة فتوى أخرى تقول إن كرة القدم حرام لأنها جزء من مخطط صهيوني لإشغال المسلمين، ويؤسفني أن أقول إن هذه الفتوى لا معنى لها، وذلك لثلاثة أسباب وجيهة:

أولها، أن المسلمين لا يلعبون كرة القدم بشكل جيد، وثانيها أن أحدا لا يفكر في إشغالهم لأنهم مشغولون أصلا بالفتاوى العجيبة، وثالثها أن مشجعي كرة القدم ليس لديهم أي استعداد للتفكير في المسائل الفقهية حين يبدأ فريقهم المفضل باللعب.

وهناك فتوى ثالثة تسأل عن حكم قيام المرأة بدور المشرفة في منتديات الإنترنت، وهي فتوى مثالية بالنسبة للمتشددين لأنها تستهدف قضيتين غير محببتين بالنسبة لهما: «التقنية الحديثة والمرأة»! فعلى الرغم من أن مثل هذه المهمة الإنترنتية تبقي المرأة محبوسة بين أربعة جدران وتبعدها تماما عن أعين الرجال، وهو ما يسعى إليه المتشددون دائما، فإن صاحب الفتوى تحدث في البداية عن الولاية العامة للمرأة التي أكد أنها غير جائزة شرعا ثم تحدث عن الولاية الخاصة للمرأة التي يرى أنها جائزة، ولحسن الحظ فإنه اعتبر إشراف المرأة على منتدى للإنترنت من الولاية الخاصة، وهو جائز بشرط ألا تكون هناك أي اتصالات أو مراسلات من أي نوع بين المشرفة وأعضاء المنتدى الإلكتروني.

وفي كل الأحوال لم أسمع حتى الآن فتوى تحرم «الواسطة» باعتبارها أمراً يلحق ضرراً بالغاً بالمسلمين، ولم أقرأ فتوى تحرم سرقة المال العام أو نهب الأراضي، ولم يصلني على بريدي فتوى تواجه التعصب القبلي والمناطقي البغيض... كل ما يحمله البريد فتاوى تحرم كرة قدم يرسلها بعض الشباب بعد متابعاتهم لمباريات كأس العالم، أو فتاوى مضادة وقصائد هجاء تهاجم من أفتى بتحليل الموسيقى يرسلها الشباب وهم يستمعون إلى محمد عبده: «كل ما نسنس من الغربي هبوب».

* كاتب سعودي