لا يوجد للعلمانية معادل دقيق في المصطلح الإسلامي، وموقفي الاجتهادي ألا نستخدمها في الخطاب الإسلامي، وإن كان من الضروري تحليلها وتفكيكها في خطابنا العلمي والأكاديمي والثقافي.

Ad

وبداية أود الإشارة إلى أن العلمانية أصلها "العالمانية" نسبةً إلى مفردة "العالم"، وليس "العلم"، والإيحاء بأنها مرتبطة بالعلم، حتى لغوياً! إيحاء مغرض ولا يجوز، وهو في أحسن أحواله يعاني "انحيازا" إيديولوجيا، وإن تكن المطالبة بالعلمانية تزامنت تاريخياً مع انتشار نزعة "العلم" في أوروبا.

وفي المصطلح القرآني، والإسلامي بعامة، وردت إشارات إلى ثنائية الآخرة والدنيا، والفارق بينهما، والدنيا بطبيعة الحال مرادف للعالم، "والعالمانية"، أو كما اشتهرت العلمانية "لغة" معادل لمفهوم الدنيا، وإن كان الانطباق بينهما، من وجهة نظر إسلامية، غير وارد، لكنه مقارب.

وقد ساد في الخطاب الإسلامي الحديث، أن الإسلام "وازن" بين الدنيا والآخرة، وهذا غير صحيح، فالقرآن الكريم يقولها بصراحة "وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى"، وهذا موقف طبيعي من الإسلام كدعوة دينية، فالآخرة هي الأبقى، ولكن الفكر الإسلامي الحديث مهووس بفكرة الموازنة الإسلامية بين النقائض والثنائيات، ولأنه فكر "نهضوي" كان هدفه مسابقة العصر وتحقيق نهضة المسلمين "هنا والآن" نظراً لما أصيبوا به من "تواكل" شديد أدى إلى ضعفهم الشامل، فقد كان يريد لهم إعادة "كفة الميزان" إلى شيء من توازنها بعد أن أصابها الاختلال الشديد.

ومن مظاهر ذلك الضعف من الناحية المعنوية، أن بعض المفكرين المسلمين بدل أن يدرسوا "العلمانية" كمصطلح ومفهوم قابل للتفكيك والنقد، نجدهم من موقع انعدام الثقة بأنفسهم وبعقيدتهم، يشنون عليها حرباً شعواء لا تبقي ولا تذر... لا تبقي ولا تذر حتى ذرةً من المعرفة والموضوعية و... احترام العقل! وتصل إلى حد الإصابة بالقشعريرة!

نعم... العلمانية ومعها الشيوعية والمادية... وغيرها وغيرها مما جاء في تراث الآخرين، ألا يجدر بنا كمسلمين أن نلم بهذه المفاهيم دون أن نركع لها، وقرآننا الكريم، وحي السماء، يورد لنا، على لسان الحق تقدس سره، عقائد الملحدين والمشركين والكفرة، قبل أن يرد عليهم!

أجل، فالقرآن الكريم، هو أوثق مصدر، بل المصدر الوحيد، أحياناً، لمعرفة مضمون الكثير من العقائد الباطلة قبل الإسلام... ولكن قومنا لا يفقهون... أفلا نقول لهم، ونحن نشرح مجرد شرح مفهوم العلمانية: "قرآنكم... يا مسلمون!".

كانت الطبقة الكنسية في أوروبا من أجل ترسيخ هيمنتها وحماية مصالحها "الدنيوية"، تحارب كل فكر تشُم منه رائحة الميل إلى الاختلاف والتعارض، ناهيك بالتحرر أو الثورة، كما كانت تحاصر كل سياسي يحاول شيئاً من الاستقلال بشؤون دولته، وتتدخل بفظاظة حتى في زواج هذا... وطلاق ذاك! وقد استمرت هذه الحال في سـيطرة ما عُرف بـ"المقـدس" على "المدنس" ردحاً طويلاً من الزمن، أي سيطرة الديني على الدنيوي!

ولكن بحكم نشوء قوى "مدنسة" أو "دنيوية" في الفكر والمصالح والحياة، وهي قوى (للمفارقة العجيبة) تنامت مع تأثر أوروبا بالمعطيات العلمية للحضارة الإسلامية، فهذا التأثير العلمي للمسلمين هو الذي أسهم في رفد تلك القوى الأوروبية الصاعدة وتحرير عقولها من السطوة الكنسية لترفع في وجهها مطلب "العلمانية"! وبطبيعة الحال لا توجد في الإسلام "علمانية"، ولكن إقحام فكرة شمول الإسلام، بدرجة مساوية، للدنيا والآخرة فكرة غريبة على الإسلام غرابة العلمانية ذاتها. وعندما يقول نبي الإسلام: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، وهي عبارة دالة وفي غاية الأهمية تشمل شؤون الدنيا بأسرها، ويجب عدم حصرها في مسألة "تأبير النخل" كما فعل الإخباريون، وإن يكن قد قيلت فيما يتعلق بالتأبير، فمنطوقها عام وشامل ويمكن سحبه على مجال السياسة دون تثريب، خصوصاً أنها تتماشى مع توجهات "صحيفة المدينة" التي وضعها الرسول الأعظم بنفسه كأول تعاقد سياسي في الإسلام، متضمنة التمييز الواضح والحاسم بين "المجتمع الديني" و"المجتمع السياسي".

وعندما يعود الباحث إلى أي مرجع في الفقه الإسلامي يجد أنه من المصادر المهمة لهذا الفقه "العُرف"، أي ما تعارف عليه الناس في البلدان والأزمان المختلفة. وهو باختصار ما لم تتناوله الشريعة الإسلامية تفصيلاً من حالات كقوانين المرور، والتأمين، وأنظمة العمل والعمال في عصرنا الراهن ... إلخ.

وفي تراثنا الإسلامي، نجد أن ابن خلدون في تعريفه للطب يضع هذا التمييز بين جوهر الرسالة الإلهية وعلم الطب النظامي: "... وكان عند العرب من هذا الطب المتوارث شعبياً كثير... والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عادياً للعرب، ووقع في ذكر أحوال النبي صلى الله عليه وسلم التي هي عادة وجبلّه لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بُعث لتعريف الشرائع، ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات، وقد وقع له في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك، وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع، وليس ذلك في الطب المزاجي (النظامي)، وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية، كما وقع في مداواة المبطون، بالعسل، والله الهادي إلى الصواب لا رب سواه"- المقدمة، الهلال بيروت 1983 ص 309.

فأي "علمانية" تأثر بها في زمنه عالم الحديث النبوي (المالكي) وقاضي قضاة مصر، عبدالرحمن بن خلدون؟... لقد كان الرجل يفكر بشكل موضوعي!... ثم ألا يمكن أن تشـمل "العاديات" السياسة... وإذا لم تكن السياسة من العاديات فمن أي شيء تكون؟!

* مفكر من البحرين