شاءت الصدف أن أمتلك ستَلايت أتابع فيه التلفزيون العربي، حين يسمح الوقتُ لذلك، وجدتني أطمع في الحصول على أكثر قدر من الكفاءة من هذا الجهاز الإعلامي والثقافي الخطير، ولكن شاشة التلفزيون تخذلني معظم الأحيان، لا تخذلني في تقنيات العرض الفنية، فهي تضاهي في المهارة والحذق ما أراه في تلفزيونات الغرب، لكنها تخذلني في التشوّه الذي يحيط بالحضور الإنساني، مع ان هذا الحضور يحتاج الى خصائص تتعارض مع الخصائص التي تحتاج اليها الأشكال البصرية في عرض عناوين البرامج، والفواصل بينها، فبقدر ما تحتاج هذه الأخيرة إلى مهارات التقنية المعقدة، وفانتازيا الفنون البصرية المدهشة، يحتاج ذلك الحضور الإنساني إلى تلقائية وبساطة ويُسر التوصيل، في اللغة والفعل.

Ad

ولكن ما يحدث هو العكس تماماً، فأنا أرى الحضور الإنساني على الشاشة يُحاكي تعقيد المهارات التقنية، ويُقلدُ محاولةَ الإدهاش التي تتمتع بها التأثيرات البصرية.

الأمر بدا لي مُحيراً، لأن فكرة الانتفاع من تلفزيون الغرب واردة، وشاشات هذا التلفزيون لا تني تكتشف سبلاً لمزيد من التلقائية والبساطة واليسر في تقديم الحضور الإنساني، لدى المذيع المنفرد بالأخبار، أو المذيع المحاور مع آخر، أو آخرين، وفي حركة التعبير أو لغته.

الصادم في الحضور الإنساني في التلفزيون العربي ان غياب هذه التلقائية والبساطة واليسر يكاد يكون تاماً، فالوجه الذي يُطلّ عليك مُثير للدهشة، ولا أريد أن أقول الفزع، في أغلب الأحيان، شأنه شأن فانتازيا الأشكال البصرية، بعض الأوجه النسائية يبدو قناعاً مسرحياً يُذكر بالدراما اليونانية، والهيئات جملةً ترزح تحت عبءٍ غامض ثقيل.

ولعلي لم أسمع طبقة صوتية تبلغ الصراخ، أو تتجاوزه، في أحاديث تلفزيونية غربية، كالطبقات الصوتية الحاضرة أبداً في التلفزيون العربي، فهي تنطوي على ضرب من التهديد والوعيد دون علةِ أو سبب.

المتحدث التلفزيوني، مذيعاً محاوراً كان أو ضيفاً، يطمع دائما في أن يُطلق العنان لعاطفته، ومعها يُطلق العنان لحنجرته لترتفع إلى مستوى تلك العاطفة.

والعاطفة والحنجرة يمنحان لحساسية اللاقطة الصوتية بالغة الرهافة حماسةً إضافية، حتى يبلغَ المشهدُ الصوتي البصري أحياناً درجةً تليق بمستشفى للأمراض العقلية، لأن غليان العواطف والحنجرة يعرّي عروق الوجه والرقبة النافرة، ويجعل العرقَ المتصببَ أكثر بريقاً.

والظاهرة المدهشة لدى المذيعين ومقدمي البرامج أيضاً، هي الرغبة في نحت الكلمة المنطوقة بطرق شتى، حتى لتبدو مستقلة تماماً عن معناها، وعن لسان ووجدان الناطق بها.

لا في التحريك الإعرابي لأواخرها فقط، بل في إعطاء ثقل بالغ الغرابة للحرف الأخير منها لحظة التوقف.

وكأن المعنى السري للكلمات كامن هناك، في تلك الحفرة التي تتركها الوقفةُ الجازمة، المريبة.

ضربٌ من التلوين المفتعل في طبقة الصوت، وضبط مخارج الحروف، لا يترك أنفاس حياة في الكلام، حتى ليُدهش المستمع عن متابعة معانيه ودلالاته!

ولعل ضرباً من هذا التلوين يأخذ لمسة تكاد تكون كوميدية، على لسان كثير من المراسلين، خصوصا في الجملة الختامية، التي يُعلن فيها المراسل اسمه ومكانه.

قد يكون بعض هذه الأعراض نتاج محاكاة المذيع والمحاور والمراسل الغربي، دون دراية بالفروق البالغة الغموض بين لغة ولغة. فما نسمع، ونُحس من الحديث الإنكليزي له جذره في موسيقى اللغة الإنكليزية، وما من قرابة بينها وبين جذور موسيقى اللغة العربية، أو بينها وبين جذور موسيقى اللغة الصينية، ولنا أن نتخيل أن هذه الأخيرة قد بلغت شيوعاً يماثل شيوع الإنكليزية، فما الذي سيحل بالمذيع والمحاور والمراسل على شاشة التلفزيون العربي؟

عاهة أخرى ثقيلة الوطأة هي الأخرى، ولعلها أشد وطأة، أجدها في طريقة الاستعداد العربية للحديث المنفرد، أو الحديث المحاور غير المكتوب. في التلفزيون والراديو الغربي تُحسب الكلمات والجمل حساب الثواني لا الدقائق. وطلاقة التعبير ويسره وليد هذا الحرص.

المتحدث العربي، في الأعم الأغلب، عادة ما يلجأ الى جمل تسد فراغات، ولا معنى لها، أو يمطمط الكلمةَ والجملةَ، وكأنه ينتظر فرَجاً من معنى عالق في مكان مجهول. ظاهرة هي وليدة غياب الحرص على الوقت، وغياب الحرص على الدلالة، والحضور الكلي للنزعة اللفظية.