كلنا سجناء يا سادة!

نشر في 13-06-2009
آخر تحديث 13-06-2009 | 00:00
 حمد نايف العنزي ليس بالضرورة أن يكون السجن جدرانا رطبة وقضبانا حديدية، فقد يكون السجن فكرة أو عقيدة أو مذهبا أو حزبا أو تجمعا يسجن المرء نفسه فيه طول عمره، ويرتعب من البعد عنه، أو العيش خارجه!

قالوا: «الإنسان كائن اجتماعي»، ولأنه اجتماعي فهو لا يطيق الوحدة والبعد عن الناس والجلوس بين أربعة جدران طوال الوقت، ولذلك اخترعوا السجون كعقاب يردع الناس عن ارتكاب الجرائم والخروج عن القوانين.

والعقل والمنطق وكل إنسان طبيعي يرى أن الحياة خارج السجن مهما كانت قاسية، أرحم بكثير من حياة أو جحيم السجن، لكن الذين قالوا «السجن للرجالة» لا ينظرون إلى السجن كما ننظر، ولا يرونه كما نرى، وأكثر هؤلاء ممن اعتادوا العيشة داخل جدرانه وخلف قضبانه سنين طوالا، ولم تعد لديهم الرغبة في أن يبرحوه أو يفارقوه لحظة!

فطعام السجن أفضل طعام، وشرابه ألذ شراب، وسريره أكثر راحة، ومن يسكن السجون خير ألف مرة ممن يعيش خارجها، وحين يطلق سراح أحد هؤلاء فإن أول ما يصنعه هو الوقوف أمام باب السجن مذهولا كسمكة خرجت من الماء، وأول ما يفكر فيه هو كيف يعود إليه مرة أخرى!

وكثير من السجناء على عكس ما يعتقد الناس، يختارون بكامل حريتهم وقواهم العقلية العودة إلى السجون، وإلى الحياة التي اعتادوها، لأنهم يجدون في السجن كما يقول بعضهم راحة من الدنيا وهمومها لا يعرفها إلا من جربها!

وقبل أشهر قليلة أعلن مواطن إيطالي رفضه قرار المحكمة الخاص بالإقامة الجبرية فى منزله لمدة 5 أشهر لارتكابه مخالفات مرورية ومقاومة السلطات، وحين سئل عن السبب، قال إنه يفضل البقاء داخل السجن عن البقاء بجوار زوجته!

ورغم أن المحكمة حاولت أن تشرح له بعض مميزات الإقامة الجبرية مقارنة بالسجن، فإنه أصر على موقفه ليدخل السجن طواعية بعيدا عن زوجته المشاكسة! حيث قال الإيطالي البالغ من العمر «56 عاما»: يستحيل أن أعيش مع زوجتي كل هذه المدة لخلافاتي الدائمة معها، ولن أستطيع مغادرة المسكن لأتفادى انتقاداتها المستمرة، لا لا السجن أفضل بكثير»!

والأديب الفرنسي جان جينيه كان من عشاق الإقامة في السجون، وقد سجن في كل بلد زاره تقريبا، وحين كتب مذكراته وضع عنوانا لها هو «مذكرات لص»، فقد اختار أن يعيش لصا ليلقى الجزاء الذي يستحقه، في المكان الذي يحبه وتطيب له الإقامة فيه، كما يطيب للبعض الإقامة في فندق من فنادق الدرجة الأولى!

والواقع أن هؤلاء المحبين للسجون، القابعين برضاهم بين جدرانها، لا يختلفون عن أي منا كثيرا، فكلنا سجناء داخل أنفسنا وذواتنا لا نريد الخروج من السجن الذي اعتدنا عليه سنين طوالا حتى لم نعد نطيق البعد عنه أبدا!

وليس بالضرورة أن يكون السجن جدرانا رطبة وقضبانا حديدية، فقد يكون السجن فكرة أو عقيدة أو مذهبا أو حزبا أو تجمعا يسجن المرء نفسه فيه طول عمره، ويرتعب من البعد عنه، أو العيش خارجه!

وفي هذه السجون، ومن أجلها، يولد التعصب والتطرف والتزمت، فكل منا حبس نفسه بين جدرانها وهو يحسب أنها جنته الموعودة، وأن الجحيم خارج حدودها، ولذلك، فآذاننا لا تسمع، وعيوننا لا ترى، وعقولنا لا تفكر، وقلوبنا لا تهوى، إلا بما تسمح به هذه السجون الضيقة... ولن نرى الدنيا على حقيقتها أبدا ما لم نحطم هذه الأسوار الحديدية التي نحيط أنفسنا بها من كل جانب!

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top