رمية النرد


نشر في 24-09-2009
آخر تحديث 24-09-2009 | 00:00
 فوزي كريم أعتقد أنه همنغواي من قال إن الشهرةَ وليدة الموهبة في عشرين في المئة منها، والثمانون في المئة الباقية تعود إلى الصدفة، وهو رأي قابل للتصديق في معظم ما نعرف من قصص النجوم، خصوصاً نجوم الأدب.

خاطرةٌ خطرتْ وأنا اقرأ روايةً لكاتبة سعودية في طي الكتمان، الذي يوصل إلى النسيان بالضرورة. نُشرت قبل سنواتٍ أربع عن دار الساقي، وقد تكون نُشرت على حساب مؤلفتها، وأشيع حولها ما أُشيع، لأنها تتعرض إلى موضوع جنسي، يخص المرأة، وميولها المِثْلية. ولقد قرأت من يكتب عن سخف التوجه، غير المُبرّأ عن هدف الشهرة، ومن يكتب عن الجرأة الرائعة في فضح مجتمع القسوة والكبت.

تعرّفت على عدد من الروايات العربية الناجحة، بفعل تماسك أعمدتها الروائية المعهودة، لكني لم أقرأ في ما سبق روايةً كامنة داخل البطل، هذا الكمون الذي لا يرى الضوء: ضوء الزمان وضوء المكان الخارجيين، إلا عرضاً.

هذا الحرص على الكمون في غمرة كيان أنثوي، استثنائي، ولم أرَ الروايةَ تتحدث عن المجتمع القمعي المحافظ، ولم يعنِها فضحه، كما أنها في سياق معالجتها المتريّثةِ للمحنة الفردية، الروحية، لم تكُن تعرف إذا ما كانت بالغةَ الجرأة، أو بالغة الحياء، أما الدفاع عن حق المرأة في الحياة فآخر ما يمكن أن يخطر على بال قارئها.

يقف وراء هذه الاجتهادات النقدية الداعمة، والمستنكِرة على حدٍّ سواء عاملان: جديّةُ الرواية التي يستغرقها الإنسانُ ومصيرُه، وهي سمةٌ لا تميّز وجه الرواية العربية إلا نادراً، وعاملُ التربية النقدية الذي يفرض على القارئ مهمةَ البحث عن هدفٍ إصلاحي، وموقفٍ فكري حاسم في كل ما يقرأ.

جديةُ رواية «الآخرون» للكاتبة صبا الحرز، جعلت نقادَ الصحافة يختزلونها إلى مجموعة أهداف، لا تمسُّ واحدةٌ منها محنةَ البطلة، في شرك عنكبوت الصدفة العمياء، فالميلُ المِثْلي ليس نتاج الكبت وحده، في مجتمع بالغ القسوة، بل هو ميل كامن في داخل الطبيعة الإنسانية، حتى في مجتمعات بالغة التحرر، كالمجتمع الغربي اليوم. ولأن معاييرَ الجماعة حكمتْ على هذا الميل بالشذوذ، فقد أورثته بالضرورة طابعاً تراجيدياً، وهذا الطابع المعقّد هو الذي قاد خيطَ الرواية، الذي ظلّ خبيئاً، تحت وطأة جسد ممزّقٍ بين كونه مُمْتلَكاً، وكونه مُتطلّعاً إلى الاحتضان والحب.

الروايةُ لم تكشف عن ملمح واحد لهذا الكبت الاجتماعي، ولا لقمع حرية المرأة، لا لأن الواقع السعودي لا يتوافر على ذلك، بل لأن الرواية لا يعنيها من هذا الأمر شيءٌ، بل على العكس، فالبطلة تحقق لقاءاتها العشقية بيسر مُدهش، مع مثيلاتها أو مع الرجل، وهي دائبة الفاعلية في حقل المسؤولية تجاه مجتمعها، وطائفتها.

جديةُ رواية «الآخرون»، وسط صحافة تسلية، فقدت أكثر من فرصة إكبار حقيقي تستحقه، ولعلي لم أقرأ إلا في ما ندر، نثراً روائياً مُعبأً بالبصيرة، ومعالجةً روائية لكيانٍ مُمتحن، بكل هذه الطواعية واليسر. صبا الحرز أسلمت بطلتها لقوى متعارضة، لا انتصار فيها لأحد على أحد: فلكلٍ من الخير والشر حصة، ولكل من النور والظلمة مُتسع، ولكل من الحب والكراهية قلبٌ مضطرب، والبطلةُ على علم بذلك، عن غير إرادة من الكاتبة، والنثر يتجسّد عبر ذلك كله، بتدفق قليل، وبالكثير الكثير من وقفات التبصّر، التي تُشبه ثقوباً، أو هُوى فاغرة، جمل تستحق أن تُجمع مُستقلةً، لتُقدم دليلاً لمن لا يريد أن يعتقد بأن غنى المعنى هو وحده الكفيل بغنى الأسلوب.

جديةُ الرواية أخمدت الضجة الصحافية التي أُثيرت حولها بسرعة، وصحافةُ التسلية بدورها لم تجد في هذه الجدية عنصراً يكفي لرفع الكاتبة إلى مصاف النجوم، رغم توافر روايتها على ما تطمع به من عناصر الإثارة، والجنس، والفضائحية، والتأليب الاجتماعي... إلخ، لذلك نامت «الآخرون» في طبعتها اليتيمة الأولى، بينما كانت رمية النرد، التي تحدث عنها همنغواي، في صالح روايات أقل شأناً بكثير، مثل «الخبز الحافي»، التي تجاوزت طبعتها الثامنة، للراحل محمد شكري! 

back to top