وجوه الحرية
في بلد لا حرية فيه... لا حياة فيه.
ففي البدء كانت الحرية، وبدونها يصبح البشر مجرد أرقام لا أهمية لهم، أغنام؟ ربما خراف؟ ربما يجترون السوالف بينهم وعيونهم شاخصة على الأرض، ينتظرون شيئاً من كلأ، وشيئاً من ماء، يشربون ويأكلون، ولكنه أكل بلا طعم وشراب لا ارتواء فيه. ينتظرون موسم الذبح اللذيذ فليس إلا الذبح مخرجاً.من يدرك ويستطعم طعم الحرية لا يستلذ بغيرها، ولا يستظل بغير ظلها، فظلها وارف يحمي الناس من قائظ الصيف وحر الحرور. هي حكاية مكررة إذن، فعندما يبدأ البشر بتنظيم أحوالهم يبدأون بوضع الضوابط واللوائح والنظم لتلك الحرية ليجعلوا منها "مسؤولة" حيناً أو "معقولة" حيناً، أو "منطقية" حيناً، وسرعان ما تتبدل تلك المسؤولية والمعقولية والمنطقية إلى عصا غليظة وأصفاد محكمة الإغلاق للضرب بيد من حديد على أيدي من "ينحرف" عن الجادة ويقرر، أو هكذا تراه المسؤولية، أن يغرد خارج السرب، وبالتالي تأديبه وجعله عبرة لمن لا يعتبر، ليعود شيئاً فشيئاً إلى ذلك السرب.الظن... مجرد الظن، بأن هناك حدوداً للتعسف هو ظن آثم، قاصم للظهر، فللبشر عبر تاريخهم أساليب وإبداعات في الإقصاء لا تعد ولا تحصى. الظن بأن الحرية صامدة ليس إلا كالظن بصمود الشمع أمام شمسنا الحارقة، حيث يزول الشمع ويتبدد ويتلاشى. بلا حرية تكون الأشياء تائهة، باهتة، وبلا حرية تتحول تلك المدن الدعية والهاربة من مواجهة الحقيقة ومن مواجهة ذاتها، إلى مجرد مدن للملح والقوالب الأسمنتية، ويتحول الزمن المشرق إلى حالة داكنة لا ترى فيها معالم الوجوه ولا الأيادي ولا الابتسامات، تضيع الملامح؛ فلا عيون ولا أنوف ولا أفواه، بل أشكال بعضها مدور وبعضها مربع وبعضها مستطيل. الحرية وحدها تصنع معالم الوجوه فتضع كل شيء في مكانه الصحيح، وعدا ذلك خراب في خراب لن يسلم منه أحد حتى أصحاب الوجوه المسطحة التائهة المعالم.