الصحوة السياسية المفاجئة للحكومة في مواجهة الاستجواب المقدم إلى وزير الإعلام ليست مستغربة أو جديدة وإن جاءت متأخرة، ولكن يبدو أنها نظمت صفوفها وانتبهت لما لديها من أوراق مغرية لتغيير المعادلة الرقمية بغرض إنقاذ كرسي الوزير، وهذا التحرك بحد ذاته عمل مشروع في بعده السياسي والتكتيكي، ولكن الحكومة وقعت في تناقضات مكشوفة في هذا الهجوم المضاد، بل كشفت معها بعض الأسرار وإن لم تكن جديدة في مجال المقايضة والمساومة وتقديم التنازلات.

Ad

فالحكومة كانت تلقي باللائمة على النواب وتصف مواقفهم المؤيدة للاستجواب بالظالمة لأنها استباقية، ولم تنتظر المرافعة البرلمانية وردود الوزير في جلسة المساءلة، وهذا الموقف المحرم تحول إلى موقف حلال ومنصف وعادل للحكومة نفسها في محاولاتها لانتزاع صك البراءة للوزير وبطريقة استباقية أيضاً، وحتى قبل جلسة الاستجواب كذلك.

فإذا كان الاستجواب بمنزلة محاكمة سياسية للوزير، فلماذا يكون حكم الإدانة قبل المرافعة غير جائز للنواب بينما حكم البراءة المبكرة مباحاً، بل من أجل كسبها لا تتردد الحكومة في تقديم التنازلات وإرضاء النواب وكسب بعض وسائل الإعلام أيضاً؟

فالرقم الذي حصل عليه الاستجواب من حيث التأييد الأولي بلغ نحو 35 نائباً يمثلون الكتل والتيارات والمشارب المختلفة في المجلس، وهذا الموقف لم يكن مجرد تأييد مبدئي للاستجواب باعتباره حقاً دستورياً لأن الكل يعرف هذه الحقيقة، إنما كان هذا الموقف تعبيرا سياسيا ساقته الكتل البرلمانية بتصريحات وبيانات أوضحت خلالها أسباب ومبررات تأييد الاستجواب، وإلا كان بمقدور الجميع الإعلان فقط عن مشروعية الاستجواب كحق دستوري.

وجميع الاستجوابات السابقة شهدت مواقف مسبقة ليس فقط في التأييد، وإنما بمعارضتها من حيث المبدأ والموضوع، وهذا أيضاً حق أصيل للنواب في تقييم نوع الاستجوابات وتوقيتها.

ولكن يبدو أن المواقف الحقيقية للبعض بدأت تتغير، ويمكن أن تذهب حتى إلى الطرف النقيض بعد أن دار "الدينامو" الحكومي، وبأوراق للمقايضة كثيرة ومتنوعة، فكما للسمك أنواع من الطُعم لاصطيادها، فإن للتيارات والنواب شباكاً خاصة يمكن احتواؤهم بها، فهناك كم من الوظائف القيادية ذات الوزن الثقيل التي يسيل لها اللعاب، وهناك الكثير من القوانين المقترحة على جدول الأعمال التي لا يمكن أن تحسم بأي اتجاه مفصلي إلا بالثقل الحكومي، وفي المقابل رفعت الحكومة "الكارت الأصفر" كأداة ترهيب ضد البعض الآخر من النواب، وأعادت موضوع مزدوجي الجنسية والتهديد بسحب "الجناسي" بعد أسابيع قليلة فقط من إعلان وزير الداخلية وتحت قبة البرلمان بعدم وجود هذه المشكلة!

ومثل هذه المغريات والتهديدات كفيلة بالتأكيد لتغيير أي موقف، ولو كان موثقاً ببيان أو تعهد أو تصريح، والتبرير له جاهز وببساطة أن الاستجواب شيء وطرح الثقة شيء آخر!

أما مواقف وسائل الإعلام سواء على مستوى المرئي والمسموع أو الصحافة المحلية ففي الأغلب لم تختلف عن الأجواء النيابية، ومن شهد اجتماع اللجنة التعليمية قبل أسبوعين أدرك حجم الاستياء من سياسات الوزير والدعوة المباشرة لرحيله، خصوصاً بعد اللقاء الذي جمع ممثلي وسائل الإعلام بالوزير والذي عبّر فيه عن توجهاته المستقبلية في شأن الحريات، ولكن يبدو أن البعض من هذه التوجهات الإعلامية قد ناله غمزات الغزل والوعود الوردية، أو لمزات التهديدات الحكومية، فتغيرت مواقفها بالفعل والبعض الآخر آتٍ في الطريق!