في كل نشاطي الشعري والنقدي، منذ أكثر من ربع قرن، أحاول أن أواصل البحث عن جذور طبيعة القصيدة العربية، المولهة بالبيان والكمال اللفظي، عن الانشغال بالمعنى، الهوس بتعالي الذات وباليقين، بعيداً عن الاعتراف ودوامة التساؤل والحيرة، السير تحت ظل الرايات، وتجنب التعثر داخل المتاهة. ولقد رأيت التولّه والهوسَ والسيرَ مظلةً تكاد تغطي الشعر العربي منذ مراحل الإسلام الأولى حتى اليوم، وكلما أعثر على استثناء أراه فتحةً للضوء باتجاه التنوير، وإعلاءً لشأن الإنسان، وتقارباً مع الشعر العالمي، الغربي أو الشرقي.

Ad

مصفاةُ البحث منحتني الجرأة لأن أنتخبَ بقناعةٍ شعراءَ مثل أبي نؤاس، وأبي العلاء المعري، وناثرين مثل أبي حيان التوحيدي، أرفعهم أمثلةً لمصادر الضوء، لا من أجل شعرٍ ونثر عربيين يكشفان عن مهمة المبدع فحسب، بل عن بصيرة الكائن الإنساني أمام الحياة، الكون والله. وتجرأتُ أن أعلنَ شعراء معاصرين لنا يحملون مأزقهم الإنساني بكل تواضع الكائن الأرضي القاصر مثل: السياب، البريكان، وعبدالصبور، وسط تظاهرة الشعراء العرب النبوئيين، بالذوات المتعاظمة، والمناضلين الأشداء أبداً من أجل اليقين، عقائدياً كان أو فنياً.

ووجدتُ المعترضين، والمحتجين، والمُنكرين، والمُتهمين، على أنهم جميعاً لا يخفون تردداً، وخشية، واحتراساً في مواقفهم، فهم لا يجدون في الشعراء والناثرين الذين انتخبتهم مناراً مواهبَ كبيرة لا غبار عليها. والاعتراض عادة ما يكون على إنكاري سحرَ المتنبي البياني حتى لو كان كاذباً، وجدة أبي تمام حتى لو كانت براعة جمالية لا غير. ولكن المدهش أن أقع على رجل دين معتدل على ما يبدو هو د. عائض القرني يُصرح بصوت بالغ الهدوء والثقة واليقين: «... ومن السخف تدريس الطلاب الجوانب المظلمة في تاريخنا الإسلامي مثل خمريات أبي نؤاس وإلحاديات أبي العلاء المعري وأبي حيان التوحيدي...»، في جملة تسخيفات كثيرة. (جريدة الشرق الأوسط، الثلاثـاء 9 ربيـع الاول 1431 هـ 23 فبراير 2010 العدد 11410).

مدهش لأنه أشعرني بأن اجتهادي لابد أن يكون وليد غفلة مني عن أمرٍ أهم من أبي نؤاس وأبي العلاء والتوحيدي. غفلة عن فكر لا ينكر عليّ موقفي الحذر من المتنبي وأبي تمام، وإنما يستسخف كل دعوة إلى التساؤل بدل اليقين، وكل متاهة بدل الراية. يطالب بحذف ما كتبه المعري وأبي نؤاس والتوحيدي من مناهج التربية، لأن هؤلاء، لا أريد أن أقول مصدر إضاءة كما أدعي، بل مصدر تساؤل وحيرة وتشكك وبحث لا يلين عن الحقيقة. ويطالب بحذف أسمائهم ونصوصهم من مناهج الدراسة، لأنها سخف لا طائل وراءه. مع أن طه حسين قبل قرابة قرن من الزمان قال آن للعربي اليوم أن يذهب إلى الغرب مطمئناً وبين يديه شعر أبي العلاء، انه وحده من بين الشعراء العرب من يحمل بصيرة الشاعر العالمي والإنساني.

فقرةٌ أخرى في مقالة الدكتور تعبر عن هدفه بصورة أوضح، يقول فيها:

«ومن السخف إشغال الطلاب في السنوات الأولى من دراستهم بأسماء الفرق والطوائف كالقدرية والجبرية والجهمية والمعتزلة ونحوها مع عدم دراسة العقيدة الصحيحة باستفاضة وفهم عميق». إنه لا يريد عقلاً خلافياً حراً، بل عقلاً وفاقياً معتقَلاً. ولا أستطيع أن أتخيلَ طبيعة اعتراضه على مقالتي في أن العقلَ الحرَّ هو العقل المتسائل، الباحث عن الحقيقة، والعقل المعتَقل هو الذي لا يُحسن السؤال خارج دائرة اليقين، أو مقالتي بأن العقل الحر هو العقل الديمقراطي الذي ينضج مع التنوع والاختلاف والصراع، والعقل المُعتقل هو عقل السلطة الواحدة، والمتسلّط الواحد.

الدكتور القرني معتدل، كما قيل لي، ولعلةٍ يطلب «... أن نرفع مستوى مناهجنا عن السخف والابتذال»، لأن «المناهج الدراسية هي المرآة التي تريك مستوى رقي الشعوب وتقدم الأمم وازدهار الدول» كما يقول. ولكنه للأسف ترك هوةً بسبب إغفاله إيراد الأمثلة اللازمة لهذه الشعوب الراقية، والأمم المتقدمة، والدول المزدهرة في دنيانا المعاصرة أو الحديثة، والتي تطابقت مع حسن النية في مطالبته بحذف سخف أبي نؤاس، والمعري، والتوحيدي، فحذفت أوفيد، ودانتي، وقرين أبي حيان الذي لم أقع عليه شخصياً!