بين ديمقراطيتين

نشر في 22-06-2009
آخر تحديث 22-06-2009 | 00:00
 د. عبدالحميد الأنصاري بين الانتخابات النيابية اللبنانية والانتخابات الرئاسية الإيرانية أيام معدودة لكن الفارق بين ديمقراطيتي لبنان وإيران كبير، في انتخابات لبنان التزم رئيس الجمهورية وكل أجهزة الدولة عدم الانحياز لأحد المرشحين بينما في انتخابات إيران نجد انحياز المرشد الأعلى للثورة خامنئي لمصلحة نجاد واضحاً، ومنذ وقت مبكر حين طلب من الناخبين الإيرانيين عدم التصويت للمرشحين الذين يستسلمون للعدو الغربي ويهينون الشعب الإيراني، في إشارة إلى المرشح الإصلاحي موسوي، وتجتمع الكتلة البرلمانية المحافظة والمؤلفة من (200) نائب لتعلن دعمها لنجاد، كما يسارع المرشد الأعلى إلى مباركة نجاد بفوزه قبل إعلان النتائج الرسمية.

في انتخابات لبنان وجدنا مرشحي المعارضة هم الأعلى صوتاً والأوسع انتشاراً إعلامياً والأضخم إمكانات، بينما المعارضة في إيران لا تحظى بإمكانات كافية مقارنة بمرشح النظام (نجاد) الذي سخرت له كل إمكانات الدولة من الأموال والإعلام الرسمي، وعندما احتجت المعارضة تعبيراً عن رفضها نتائج الانتخابات جوبهت بالقمع العنيف ليسقط العشرات من القتلى والجرحى، وقامت الدولة بإسكات الإعلام ومحاصرة الصحافيين في بيوتهم ومقارهم لمنعهم من تغطية الاحتجاجات، وفرضت جواً من التعتيم الإعلامي وتعطيل شبكات المحمول، وغلق مواقع الإنترنت وطرد الصحافيين الأجانب لتقول منظمة (مراسلون بلا حدود) إن إيران أكبر معتقل للصحافين في المنطقة.

وفي حين تكيل المعارضة اللبنانية اتهاماتها بالعمالة والخيانة وخدمة إسرائيل وأميركا والصهيونة ضد مرشحي الموالاة الحاكمة، نجد في إيران أن قادة النظام هم الذين يشككون في وطنية المرشحين المنافسين لنجاد ويحذرون الجماهير من التصويت لهم لأن في ذلك خدمة لأعداء النظام، ويقوم أحد رموز الحرس الثوري بالتحذير من (الثورة المخملية) التي يخطط لها موسوي، داعياً الشعب الإيراني إلى مواجه مؤامرات الأعداء الذين يتحينون فرصة الانقضاض على النظام.

في إيران يحكم رجال الدين قيضتهم الحديدية على كل أشكال السلطة ومستوياتها، ومجلس صيانة الدستور هو الوحيد الذي يعطي إجازة الترشيح للرئاسة بناءً على معايير صارمة أهمها: الولاء للنظام وسلامة العقيدة الدينية، وقد تم استبعاد أكثر من (400) مرشح، والسماح بـ(4) مرشحين هم من أبناء الثورة، ومن بقايا الحرس القديم، لكن الأقوام والأقليات الأخرى مستبعدة.

كما أن الرئيس المنتخب لا يملك إلا صلاحيات محدودة، في إطار الصلاحيات المطلقة للمرشد الأعلى للثورة، الذي يملك القول الفصل في الشأن العام للدولة، ويرسم السياسات العليا ويهيمن على السلطات الثلاث: البرلمان والقضاء والحكومة، إضافة إلى الإعلام والجيش والحرس الثوري ومجلسي صيانة الدستور وتشخيص النظام، وهو فوق ذلك محصن ضد المساءلة أو المناقشة أو العزل مدى الحياة، إضافة إلى أنه فوق القانون، وهي سلطات لا يحظى بها أحد لا في نظام ملكي ولا جمهوري، بل إن رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان والقضاء في لبنان لا يملكون مجتمعين مثل هذه الصلاحيات الشاملة، وفي حين تملك المعارضة اللبنانية حق الفيتو المعطل لقرارات الحكومة، وتسيطر على مناطق مختلفة عسكرياً وأمنياً، نجد المعارضة الإيرانية لا تستطيع الخروج في مسيرات سلمية للتعبير عن احتجاجها من غير سقوط قتلى وجرحى في صفوفها أو مواجهة حملة اعتقالات لرموزها.

تلك هي انتخابات لبنان التي شهد العلم بنزاهتها وهذه هي انتخابات إيران المحدودة، وهي على محدوديتها لم تسلم من شوائب التدخل والتلاعب بالأصوات، ولربما من حق أحد أن يتساءل: إذا كانت هذه الانتخابات لن تفرز إلا رئيساً تابعاً ومنفذاً لقرارات المرشد الأعلى، فما الفرق بين رئيس محافظ كنجاد أو إصلاحي كموسوي؟ وهل يستحق هذا الأمر أن تعرض الجماهير نفسها للضرب والجرح والقتل والاغتيال؟! أتصور أن الأمر أبعد من ذلك.

فأولاً: هناك شعور عام بالمهانة مبعثه اعتقاد الجماهير التي احتجت، أنه تم التلاعب بأصواتها وأن الدولة اغتالت الإرادة الشعبية العامة.

وثانياً: غذى هذا الشعور استياء الإيرانيين بمن فيهم الطبقة الدينية الحاكمة من انحياز المرشد الأعلى وتدخله لمصلحة نجاد قبل الانتخابات وبعدها، قبل ظهور النتائج الرسمية، وتأتي رسالة رفسنجاني المفتوحة للمرشد تعبيراً عن هذا الاستياء، وكما يقول إبراهيم يزدي الذي كان وزيراً لخارجية إيران في أول حكومة بعد الثورة (إن سلوك المرشد العام أدى إلى إثارة تساؤلات جدية بين كبار آيات الله وأعضاء مجلس الخبراء حول صلاحية المرشد الأعلى، لدرجة أن أحد الآيات الكبار في قم أصدر فتوى بتحريم التعامل مع حكومة نجاد لأنها غير شرعية) هذا العرف وهو عدم تدخل المرشد العام، حرص عليه قادة ورموز النظام على امتداد (30) سنة، وتم اختراقة هذه المرة.

ويبدو أن حسابات خارجية وأخرى استراتيجية دفعت الولي الفقيه إلى هذا التجاوز، منها: أن خامنئي يريد في ظل الإدارة الأميركية الجديدة شخصاً مثل نجاد عنده الولاء المطلق للمرشد، وهو مفاوض متمرس يمكن أن يأتي بالصفقة المفضلة من (الأميركيين) ثم إن المرشد الأعلى لم يكن مستعداً لتلقي ضربتين في وقت متقارب:

الأولى، خسارة حزب الله– ممثل الولي الفقيه في لبنان– للأغلبية النيابية التي راهن عليها كثيراً وبشر أتباعه بها، والأخرى، مجيء رئيس إصلاحي ليس على هواه، وقد يثير اختلافاً غير ملائم في هذه المرحلة: كان المرشد الأعلى يسعى إلى رد إيراني على نتائج انتخابات لبنان التي خيبت آماله ليستمر المشروع الإيراني قوياً في المنطقة، لم يكن مقبولاً لدى المرشد الأعلى الفشل في لبنان ليعقبه الفشل في إيران، ولهذا اتخذ قراره ومنذ وقت مبكر لإعادة تنصيب نجاد لمواجهة رياح التغيير في المنطقة إثر مجيء أوباما ورسالته الودية للعالم الإسلامي.

وثالثاً: الشعب الإيراني خصوصا الجيل الجديد من الشباب، وبعد 30 سنة من الثورة سئموا الشعارات ولم يجدوا الآمال التي وعدوا بها في حياة كريمة مثل جيرانهم الخليجيين على الضفة الأخرى أو كرامة مصانة، بل وجدوا أوضاعاً اقتصادية صعبة وعزلة دولية متزايدة، الشعب الإيراني شعب حيوي طموح ومنفتح ويريد التواصل مع العالم، وذو إرادة غلابة وصاحب حضارة عريقة يعتز ويفاخر بها، فهم الذين أسقطوا الشاه تحت عنوانين: محاربة الدكتاتورية والقضاء على الفساد، ولكن ها هم اليوم وبعد مرور هذه السنوات الطويلة والشعارات الكثيرة والثروات الطائلة التي أنعم الله بها على إيران لا يكادون يجدون اختلافاً كثيراُ عن الوضع البائس السابق، يريد الشعب الإيراني أن يتمتع بثروته الوطنية كسائر شعوب الأرض بدلاً من تبديدها في تمويل الجماعات الإيديولوجية خارج إيران وفي دعم المغامرات الخارجية تحت شعارات محاربة الشيطان الأكبر.

ورابعاً: كشفت المناظرات التلفزيونية بين المرشحين الأربعة حقائق مروعة عن تفشي الفساد والتسلط والمحسوبية في عمق النظام، وبين أقطابه وأجنحته الحاكمة، مما ترتب عليه كسر هالة القداسة الدينية التي يحيط بها رجال الدين أنفسهم، ففي حين تعيش نسبة كبيرة من أبناء الشعب الإيراني تحت مستوى خط الفقر يتمتع أقطاب ورموز في النظام الإيراني بالمليارات.

لقد تململ الشعب الإيراني من تحكم رجال الدين في حرياتهم وضاقوا بأساليبهم في الحكم، وبقي أن نتساءل: إذا كان النظام الإيراني واثقاً من سلامة وصحة نتائج الانتخابات، وأنه لم يحدث أي تلاعب بالأصوات، فلماذا هذا القمع العنيف ضد المتظاهرين؟! ولماذا رد الفعل المبالغ فيه ضد المسيرات الشعبية السلمية؟! ولماذا فرض التعتيم وإسكات الإعلام والخشية من تغطية المسيرات الشعبية؟! ولماذا طرد الصحافيين ومحاصرتهم؟! ولماذا أصلاً يسارع المرشد الأعلى إلى تهنئة نجاد ومطالبة الأمة بالوقوف خلفه قبل ظهور النتائج رسمياً في تعد للحق الدستوري لمجلس صيانة الدستور؟!

كل هذا يحصل في الانتخابات الإيرانية ومع ذلك يقول نجاد: إن الانتخابات الإيرانية تفوقت على الديمقراطية الغربية! لكن الأعجب منه تصريح النائب الأردني الممثل في البرلمان العربي من أن النموذج الانتخابي الإيراني يمكن أن يحتذى به في المنطقة!! كيف يكون نموذجاً يحتذى به وهو لم ينجح بعد في عقر داره؟!

* كاتب قطري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top