إن صور الأماكن والشخصيات التي يرسمها الراوي، تكتسب لدى القارئ ألواناً وأشكالاً وملامح وطبائع إضافية مستقاة من تجربته الحياتية الخاصة، لكنه لا يمكن أن يتعدى حدود هذه المشاركة الرمزية التي تجعله كمن يملأ الرسوم المخطوطة بألوانه الأثيرة.

Ad

في إحدى مقالاته النقدية تحدث الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو صاحب «اسم الوردة» عن العلاقة الصحية المفترضة بين القارئ والنص الأدبي، فمنح القارئ مكانة مميزة على قدر المسؤولية التي حمله إيّاها... وهي مسؤولية تتطلب منه ألا يكون مجرد تابع أو مسافر منقاد، بل ان يكون جزءاً من النص، وشرط ذلك هو أن يكون ذا مُخيّلة واسعة. فبهذه المُخيّلة وحدها يستطيع القارئ أن يكون جزءاً من النص الذي يقرأه.

ولفرط ثقته بهذا القارئ المفترض، لا يكتفي «إيكو» باعتباره جزءاً من النّص، بل إنه يكافئه، نظير سعة خياله، باعتباره شريكاً في التأليف أيضاً!

ويضرب مثلاً على ذلك بقوله إنّنا عند النظر إلى الخريطة يمكننا أن نتخيل رحلات خارقة ومغامرات عظيمة بين بحار وجزر مجهولة، لكن الخريطة في هذه الحالة هي مجرد محرِّض أو ملهم، بينما قارئ الخريطة هو الراوي الحقيقي لتلك المغامرات.

يبدو هذا المثل عويصاً ومبهماً مثل متاهة المكتبة في رواية «اسم الوردة». ذلك لأن الفرق شاسع جداً بين خطوط الخريطة الصماء والعوالم اللصيقة بالواقع والشخصيات الحية التي نكاد نسمع أصواتها في الأعمال القصصية.

قد يمكن القول، مثلاً، إن صور الأماكن والشخصيات التي يرسمها الراوي، تكتسب لدى القارئ ألواناً وأشكالاً وملامح وطبائع إضافية مستقاة من تجربته الحياتية الخاصة، لكنه لا يمكن أن يتعدى حدود هذه المشاركة الرمزية التي تجعله كمن يملأ الرسوم المخطوطة بألوانه الأثيرة، وفي ما عدا هذا فإنه لا يملك إلا أن يكون تابعاً طائعاً على قدر سطوة سيّد الحبكة.

وفي تركيزه على أهمية المُخيّلة يقول «إيكو»: كلّما سئلتُ عن الكتاب الذي سأختار أن أحمله معي إذا ما رمتني الأقدار إلى جزيرة نائية، فإن إجابتي هي... «دليل الهاتف». ذلك لأنني، مع كل هذه الشخصيات التي يضمها الدليل، سيمكنني اختلاق عدد لا نهائي من القصص.

إن هذا الجواب هو آخر ما يتوقع المرء سماعه من كاتب كبير مثل «أمبرتو إيكو»، وهو لابُد أن يدفع المرء إلى أن يتساءل متعجباً: هل يحتاج كاتب موهوب واسع الخيال إلى أسماء دليل الهاتف لكي يمكنه أن يتخيّل قصص أصحابها؟ أليس من الأسهل على مَن سيبتدع عدداً غير نهائي من القصص أن يختلق قبل هذا عدداً غير نهائي من الأسماء؟!

إن الكاتب الموهوب لا يحتاج في جزيرته النائية إلا إلى قلم وأوراق... مادام رأسه معه.

* شاعر عراقي