في ديسمبر من العام الماضي، نجح مشرعان أميركيان في تمرير مشروع قانون عبر "مجلس النواب"، بأغلبية 395 صوتاً مقابل ثلاثة أصوات، يلزم الرئيس بتقديم إفادات دورية عن مشغلي الأقمار الاصطناعية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيما يتعلق بسماحهم ببث قنوات تذيع محتوى "يحض على معاداة الولايات المتحدة والتحريض على استخدام العنف ضدها".

Ad

يحتاج المشروع لأن يُقر من الغرفة الثانية في الكونغرس (مجلس الشيوخ)، قبل أن يصبح قانوناً نافذاً، يخول الرئيس الإشارة إلى دولة بعينها، تمتلك قمراً اصطناعياً أو تديره، وتبث من خلاله إحدى القنوات مواد تعتبرها الحكومة الأميركية "محرضة على الكراهية أو العنف"، وبالتالي يُفتح الباب لفرض عقوبات على تلك الدولة.

يمثل هذا القانون خطراً شديداً، ويُبقي السيف مصلتاً على رقبة قنوات ومشغلي أقمار في المنطقة في حال تفعيله، ويمكن من خلاله التحكم بمضمون الكثير من المواد الإخبارية والترفيهية، بما يضمن بالطبع إبقاءها تحت خط إثارة قلق إسرائيل أو غضبها؛ ولذلك فلم يكن مستغرباً أن يكون المشرعان اللذان قدما المشروع هما إيلينا روس ليهيين المجاهرة دوماً بمساندة الدولة العبرية، وجوس بيليراكيس، الجمهوري الذي تصب تبرعات يهودية وفيرة في تمويل حملاته الانتخابية.

لطالما نجحت إسرائيل في تنسيق هجماتها وتنظيم جهودها وحشد مصادر قوتها للتأثير في القرار الأميركي حيال قضية الشرق الأوسط، وها هي تنجح في قيادة المشرع في هذا البلد العظيم لإقرار قوانين تخدم مصالحها وتحمي صورتها.

هكذا فعلت وتفعل دائماً؛ فقبل ذلك بشهور كان "اتحاد الجمعيات اليهودية الفرنسية" قد نجح في إقناع المجلس الأعلى للإعلام السمعي والبصري في فرنسا، بإصدار قرار منع بث قناة المنار اللبنانية التابعة لـ "حزب الله" على القمر الاصطناعي الأوروبي "هوتبيرد"، بدعوى "ترويجها للتحريض على كراهية إسرائيل واليهود وممارسة العنف ضدها".

وعندما أبطل المجلس الدستوري الفرنسي القرار، لم تيأس الجمعيات اليهودية، بل كثفت عملها لإقناع الجمعية الوطنية (البرلمان)، بإصدار قانون يمنع بث "المنار"، وهو القانون الذي عُرف لاحقاً بـ "قانون المنار"، وصار مضرباً للمثل على إمكانية تمرير القوانين بسرعة قصوى في البرلمان الفرنسي طالما كان هناك زخم يهودي يدعمها.

لا تقف إسرائيل أو أنصارها لحظة واحدة لالتقاط الأنفاس، بل تعمل باجتهاد ويقظة دائمين، لرصد كل المخاطر التي تحيط بصورتها في العالم الغربي خصوصاً، وتحشد كل أسلحتها، وتخوض معاركها بالطاقة القصوى، مهما كانت التهديدات صغيرة أو بعيدة أو متراخية.

فلم تكد السفيرة البريطانية لدى لبنان فرنسيس غاي تنشر مقالاً على مدونتها، تشيد فيه بمناقب المرجع الشيعي العلامة حسين فضل الله، الذي غيبه الموت الأسبوع الماضي، تاركاً ميراثاً من التوافق والاعتدال والسمعة الحسنة بين أوساط عديدة، حتى تعالت الأصوات اليهودية والإسرائيلية مطالبة بـ "مراجعة السفيرة" و"تصحيح الوضع"، وإزالة المقال من المدونة، التي تُبث عبر موقع وزارة الخارجية البريطانية، وهو الأمر الذي لقي استجابة فورية من لندن.

كتبت غاي مقالتها تأسيساً على معرفة عميقة بشؤون البلد الذي تخدم فيه، وانطلاقاً من خبرة مباشرة نتجت عن معرفتها بالمرجع الراحل، فوصفته بأنه "رجل دمث"، وقالت إن "المنطقة بحاجة إلى مزيد من الرجال من طينته، ليدعموا التواصل بين الأديان"، لكن إسرائيل وأنصارها وأعضاء اللوبي اليهودي في بريطانيا تدخلوا جميعاً، خوفاً من تكرس تلك الصفات بحق الرجل، الذي ناصب الصهيونية العداء، ونجحت في إزالة المقال.

وكما كان رثاء فضل الله وراء الإشكال الذي حدث للسفيرة البريطانية كان أيضاً سبباً في فصل الإعلامية الأميركية من أصل لبناني أوكتافيا نصر، محررة شؤون الشرق الأوسط في شبكة "سي إن إن" الشهيرة، التي نشرت رسالة ترثي فيها الرجل، على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر"، لتشن عليها جماعات يهودية وناشطون جمهوريون وزملاء مهنة هجوماً حاداً، أدى إلى فصلها من عملها. فلم يكد يمر يوم واحد على نشر رسالة نصر، حتى قررت "سي إن إن" فصلها من عملها، مبررة قرارها بأن ما أقدمت عليه الإعلامية الشهيرة، التي خدمت المحطة لعقدين، حين عبرت عن احترامها لفضل الله، "لا يتفق مع المعايير التحريرية للشبكة"، بل عبرت عن أسفها لـ "أي إزعاج سببته الرسالة"، متجاهلة أن المعايير التحريرية للشبكة يجب ألا تسري على حياة العاملين الشخصية، ولا على آرائهم السياسية والاجتماعية، طالما أنهم يعبرون عنها بشكل شخصي ولا ينسبونها للمحطة أو لصفاتهم الوظيفية.

لم تقم "سي إن إن" وزناً لسنوات الخدمة الطويلة التي أمضتها نصر فيها، ولا لبرنامجها المميز "أصوات عربية"، والأهم من هذا كله أنها لم تقم وزناً لحرية التعبير، ولا لحقوق العامل، ولا لمنظومة القيم التي تعلقها على كل جدار في المبنى الذي تشغله، بعدما تعرضت للضغوط العارمة من اللوبي اليهودي والدولة العبرية. كان هذا أمراً مشابهاً تماماً لما حدث مع المراسلة الأقدم في البيت الأبيض، وعميدة مراسلي الرئاسة الأميركية، هيلين توماس، حين تجرأت تلك الصحافية ذات الـ89 سنة، وردت على سؤال عن الأوضاع في فلسطين، بدعوة اليهود إلى ترك البلد لأهلها، والعودة إلى البلدان التي أتوا منها.

فُتحت النيران على المراسلة العجوز ذات الأصل اللبناني، وتضامنت جمعيات مهنية وسياسية في حملة شعواء عليها، ووُصمت بأبشع الصفات العنصرية، وطالب صحافيون وسياسيون بطردها من عملها، حتى اضطرت إلى الاعتذار والتراجع، وهو الأمر الذي لم يشفع لها، فأعلنت تقاعدها، ليكون يوم الاثنين الماضي آخر يوم تجلس فيه على مقعدها المختار، في الصف الأول أمام الرئيس أو الناطق باسمه، منذ عهد الرئيس الأسبق جون كينيدي.

سألت توماس الرئيس أوباما يوماً: "من برأيك الدولة التي تملك رؤوساً نووية بالشرق الأوسط؟"، وقد كان هذا السؤال كافياً لأن يوجه الحاخام ديفيد نيسينوف سؤاله "الفخ" إليها، قائلاً: "هل من تعليق على إسرائيل؟"، لتجيب السيدة العجوز، ويطير رأسها.

فيما يتعلق بحرصها على صورتها، وهمتها العالية في إسكات أعدائها، وترويع المحايدين، وتجنيد الأنصار، فإن إسرائيل لا تُضارع، وإذا لم ينتبه العرب لصورتهم، ويدافعوا عن أنصارهم، ويسوقوا مواقفهم، بشكل أكثر فاعلية، خصوصاً في الغرب، فالنتيجة لن تكون سوى هزائم متتالية للحق الضعيف في مواجهة الباطل القوي.

* كاتب مصري